متى يجتمع الجاني والمجني عليه؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

خبر بالغ الغرابة وقعت عليه عيني وأنا أتصفح مجلة التايم الأميركية، على موقعها على شبكة الإنترنت. فقد نقلت المجلة في 4 سبتمبر الجاري عن وكالة الأسوشيتد برس، أن اجتماعا سريا انعقد في ولاية وايومنغ الأميركية، بين ممثل "الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة" وممثل منظمة "الكوكلاكس كلان".

 والخبر مدهش بالفعل، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها لقاء بين واحدة من كبريات المنظمات الإفريقية الأميركية، صاحبة التاريخ الطويل والمؤثر في كفاح السود والأقليات عموما من أجل حقوقهم المدنية، وبين مسؤول في أكثر المنظمات العنصرية قبحا في تاريخ أميركا، والمسؤولة عن ارتكاب عدد هائل من الجرائم البشعة ضد السود منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. والأغرب من الخبر نفسه، هو التجاهل الواضح له من جانب أغلب وسائل الإعلام الأميركية.

والجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة، من أقدم منظمات مقاومة العنصرية في أميركا، وقد نشأت في عام 1909 في أوج الفصل العنصري والتنكيل بالسود في أميركا. وخاضت المنظمة منذ إنشائها معارك قانونية صعبة، أسهمت في دعم حركة الحقوق المدنية التي وصلت لذروة كفاحها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

فالمنظمة من خلال خطة مبدعة وعبر حملة قانونية استمرت عقودا، نجحت في أن تنتزع من المحكمة العليا الفيدرالية سلسلة من الأحكام التي قوضت بالتدريج الأسس القانونية للفصل العنصرى، حتى توجت كل ذلك بالحكم الشهير الذي صدر في عام 1954، والذي قضى بوقف الفصل العنصري في المدارس.

وطوال العقود السابقة، نشأ الكثير من المنظمات السوداء، ولكنها اتخذت مناهج مختلفة في الكفاح السياسي مثل العمل المباشر، كالمسيرات والإضرابات، فظلت الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة هي المنظمة الأكبر التي تستخدم المسار القانوني والدستوري.

أما الكوكلاكس كلان فهي منظمة عنصرية، نشأت في القرن التاسع عشر في الجنوب الأميركي. واسم المنظمة يأتي من كلمة "كوكلكس" اليونانية التي تعني "دائرة"، للإشارة إلى مجموعة من الأفراد ارتبطوا لهدف يجمعهم.

وقد عرفت المنظمة بطقوس بعينها، حيث اشتهرت بارتداء أعضائها ملابس فضفاضة بيضاء اللون، فضلا عن غطاء للرأس يشبه الطرطور الذي يستخدمه الأطفال في أعياد الميلاد، وإن كان طويلا للغاية، فضلا عن أغطية للوجه لإخفاء الهوية.

ومن أشهر طقوسها حتى يومنا هذا، حرق الصليب وسط صلوات ودعوات، بالقرب من مساكن السود وداخل أحيائهم، وهو تقليد سكوتلندي قديم هدفه الإرهاب وإثارة الذعر.

وقد ظلت المنظمة منذ البداية وحتى اليوم، تؤمن بأن العرق الأبيض يتفوق على غيره من الأعراق الأخرى للبشر التي هي أدنى درجة، ومن ثم لا تجوز المساواة بينها. لذلك، هدف المنظمة هو الحيلولة دون حصول السود على حقوق متساوية مع البيض.

والكوكلاكس كلان ليست منظمة ذات هيكل تنظيمي هيراركي، وإنما هي أقرب للشبكة المكونة من منظمات مستقلة في الولايات المختلفة، تتخذ جميعا الاسم نفسه لأنها تتبنى الهدف نفسه. ومنذ النشأة الأولى، اعتمدت الكوكلاكس كلان على السرية والعنف سبيلا لتنفيذ أهدافها، وكان أعضاؤها يخرجون ليلا لممارسة العنف العنصرى دون عقاب.

فأجهزة الأمن ظلت حتى العشرينات على الأقل، تضم بين رجالها من هم أعضاء أصلا في المنظمة أو من يرفضون اتخاذ إجراءات ضدها. وقد أسهم المواطنون البيض الجنوبيون عبر التزامهم الصمت على جرائم المنظمة، في انتعاشها وغياب أي رادع يحول دون ارتكاب المزيد من الجرائم.

إذن، الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة والكوكلاكس كلان على طرفي النقيض، فالأولى تسعى للحقوق المتساوية، والثانية تروج لدونية السود وغيرهم من الأقليات.

الأمر الذي يصبح معه غريبا، في ظل العنف الذي لا تزال تمارسه الثانية ضد السود، أن يجتمع الطرفان في لقاء، خاصة إذا كان لقاء يطلبه المجنى عليه! فخبر الأسوشيتد برس يقول إن الاجتماع جرى بناء على طلب رئيس فرع الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة في وايومنغ، بعد أن وصلته تقارير تؤكد أن الكوكلاكس كلان توزع مكتوبات عنصرية في بعض مدن الولاية وتقارير أخرى، تؤكد على تعرض الكثير من السود للضرب المبرح.

والخبر يقوم هنا على منطق يثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها، فمضمون التقارير التي تحدث عنها الخبر باعتبارها سبب اللقاء، هي القاعدة في ممارسات الكوكلاكس كلان طوال تاريخها. فما الذي دعاهذه المرة تحديدا لأن تكون تلك الممارسات سببا في طلب لقاء؟ ثم إن الخبر كان مقتضبا للغاية بخصوص مضمون اللقاء، الذي بدا من تفاصيله المحدودة أكثر غرابة.

فقد نقلت التايم أن مسؤول الكوكلاكس كلان ملأ استمارة عضوية لدى الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة ودفع لها خمسين دولارا، ثلاثون منها كاشتراك في نشرتها الشهرية، والعشرون الباقية كمنحة! ولا يبدو اللقاء وكأن تحولا ملموسا قد حدث، فقد خرج منه مسؤول الكوكلاكس كلان ليقول "نحن لا نريد العنف، ولكننا فخورون بأننا بيض"، بينما هذا الفخر هو جوهر العنصرية.

ومن الواضح أن اللقاء أثار حفيظة الكثيرين من الناشطين السود، واعتبروه بمثابة "إضفاء للشرعية على الكوكلاكس كلان باعتبارها ذات أهداف مشروعة يمكن الحديث معها بشأنها". لكن لم يصدر عن الإدارة المركزية للجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة، حتى كتابة هذه السطور، أي تعليق على الحدث.

فهل تتبرأ الجمعية العامة مما فعله فرعها في وايومنغ أم تؤيده؟ وهل سيتم الإعلان عن الهدف الحقيقي للاجتماع وما تحقق فيه؟ أسئلة كلها مثيرة قد تكشف الأسابيع القادمة إجاباتها. لكن السؤال الأهم هو ما إذا كانت هناك شروط يتحتم توافرها في لقاء المجني عليه بالجاني، لتحقيق تقدم ملموس بالنسبة للضحية، خصوصا إذا كان الجاني، كما في حالة الكوكلاكس كلان، لم يغير فكره ولا ممارساته؟

 

Email