عن الصراع بين الحكومة والجيش في تركيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، استطاع مؤخرا حسم الصراع بين حكومة حزب العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية، فقد ترأس أردوغان اجتماع المجلس العسكري الأعلى في أنقرة الأسبوع الماضي، للمرة الأولى من دون شريك عسكري، الأمر الذي جعل المراقبين يقولون إن ذلك حسم مستقبل العلاقة بين الحكومة والجيش التركيين، في اتجاه خضوع المؤسسة العسكرية لحكم الساسة المنتخبين.

وكان طلب ستة من أكبر قادة الجيش التركي إحالتهم إلى التقاعد، هو الحلقة الأخيرة في سلسلة حلقات أدت إلى هذه النهاية، لكنها ارتبطت بعوامل عدة خارجية وإقليمية وداخلية، أدت إلى تراجع دور الجيش في السياسة التركية. وجاء تعيين رئيس الأركان الجديد نجدت أوزال، ليؤكد سيطرة الحكومة على المؤسسة العسكرية. ويجمع المراقبون على أن وضع رئاسة الأركان في يدي أوزال، الذي يدعم أطروحات الحكومة لتسوية القضية الكردية، سيسهّل على الحكومة مناقشة صوغ دستور جديد لتركيا، في شكل أكثر حرية خلال الشهور المقبلة.

إذ ينوي رئيس الوزراء تحجيم دور الجيش مؤسسياً في هذا الدستور الجديد، وتحديد مهماته في الدفاع عن الوطن، ومنعه من التدخل في أي شأن سياسي، إضافة إلى تحويله جيشاً محترفاً. وهذه مسائل كان يمكن أن تثير توتراً بين الجيش والحكومة، لو استمر الجنرال عشق كوشانير رئيساً للأركان، ومعه ضباط أتاتوركيون آخرون يصرّون على بقاء الجيش سلطة منفصلة عن الإدارة السياسية، من أجل مراقبة الساحة السياسية وضمان تنفيذ تعاليم أتاتورك.

وبالطبع فإن حزب العدالة والتنمية لم يستطع اتخاذ هذه الإجراءات، إلا بعد ما يقرب من 10 سنوات من توليه الحكم، وهو ما يعيدنا إلى العوامل الخارجية والإقليمية والداخلية التي سبقت الإشارة إليها. فنحن لا نستطيع استبعاد آثار انتهاء الحرب الباردة على تراجع نفوذ الجيش التركي، فهذا الجيش الذي كان يحتل موقعا مركزيا داخل جيوش حلف شمال الأطلسي، جعله موضع اهتمام قيادات الناتو وساسة الدول الأعضاء في الحلف.

وفتح لقياداته الطريق لنسج علاقات قوية مع القيادات السياسية والعسكرية الغربية، تراجع دوره بعد انتهاء الحرب الباردة، وتراجع بالتالي الاهتمام به. وفي ظل المعطيات السياسية الجديدة بعد 11 سبتمبر 2001، أصبحت الحاجة أكبر إلى حكومة العدالة والتنمية، لكي تكون نموذجا لدول العالم الإسلامي من وجهة النظر الغربية، ليصبح الاهتمام بها وبقادتها بديلاً عن الاهتمام بالجيش التركي، الأمر الذي أفقد المؤسسة العسكرية التركية أحد أبرز مصادر نفوذها الداخلي.

وهو ما ساعد "العدالة والتنمية" على تقليم أظافرها، عبر عدة مراحل بدأت بتعديل قانون مجلس الأمن القومي، لتصبح هناك إمكانية لأن يصبح أمينه العام مدنياً، بعدما كان من الملزم قانوناً أن يكون من العسكريين.

وكانت الأزمة التي أدت إلى المواجهة الأخيرة، هي تلك المتعلقة بتوقيف قادة عسكريين كبار عددهم 43، بتهمة الإعداد لمؤامرة على الحكومة لتعطيل عملها، وكان طلب القادة الستة بالإحالة للتقاعد، على خلفية رفض رئيس الوزراء ترقية بعض هؤلاء المتهمين، إلى مناصب أعلى في الجيش.

ومن بين العوامل الإقليمية التي أدت إلى تراجع دور الجيش التركي، تراجع العلاقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل، حيث كانت العلاقة بين القادة العسكريين الأتراك ونظرائهم الإسرائيليين قوية، وكان الغضب الشعبي التركي على إسرائيل مؤثراً على شعبية قادة الجيش، الذين ظلوا على مدى طويل يحظون باحترام الجماهير التركية. فالملاحظ أنه في كل المواجهات التي تمت بين هؤلاء القادة والحكومة، كانت الجماهير إما في صف الحكومة أو لم تكن مهتمة بالمسألة أساساً، وهو ما يؤكد تراجع مكانة المؤسسة العسكرية شعبياً في السنوات الأخيرة.

أما الأسباب الداخلية التي أدت إلى هذه النتيجة، فهي متعددة، وفي مقدمتها أن حزب العدالة والتنمية استطاع أن يحصل على تفويض شعبي بالحكم ثلاث مرات متتالية، وهو ما يعني أن النخبة العلمانية قد تراجعت بصورة شبه نهائية، وأصبح الصراع الداخلي يدور بين تيارين، هما الإسلامية المعتدلة ممثلة في العدالة والتنمية، والقومية المتشددة ممثلة في الحزبين القوميين الممثلين في البرلمان التركي في الوقت الراهن.

ولم يكن حزب العدالة والتنمية ولا رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، يمكنهما الدخول في مواجهة مع المؤسسة العسكرية التركية، من دون تحقيق النجاح الاقتصادي الذي حدث في تركيا خلال السنوات العشر الماضية، فقد تقلص معدل التضخم، وتراجعت نسبة البطالة، وأصبح الاقتصاد التركي من أقوى 15 اقتصادا في العالم، فضلاً عن أن تركيا تخلصت من الفساد الذي كان مستشرياً في أروقة الدولة، خلال السنوات التي سبقت وصول الحزب إلى سدة الحكم، وهذا الفساد أدى إلى سقوط النخبة الليبرالية تماما، بما جعلها على هامش الحياة السياسية في تركيا.

وعند أي مواجهة بين النخبة العلمانية، سواء بجناحها المدني ممثلاً في المحكمة الدستورية العليا أو بجناحها العسكري ممثلاً في المؤسسة العسكرية، فإن المواطن التركي عليه أن يفاضل بين العودة إلى أوضاع ما قبل وصول الحزب إلى الحكم، وهي أوضاع تميزت بالفوضى وعدم الاستقرار والمواجهة العسكرية المفتوحة مع الأكراد ممثلين في حزب العمال الكردستاني، وبين الأوضاع الحالية، وهي أوضاع جيدة على الصعيدين المادي والمعنوي، حيث أصبحت تركيا دولة مركزية في المنطقة، ولها وزن دولي مرموق. وهذه المقارنة تصب في النهاية لصالح حزب العدالة والتنمية، وليس في مصلحة المؤسسة العسكرية.

Email