إدارة الموارد الطبيعية مشكلة بيئية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر الكائنات الحية بشتى أنواعها، من المنظومات المتفتحة (ُِمَ َّ؟َُّّمٍَّ)، منظومات ذات طبيعة إيجابية تتفاعل مع البيئة المحيطة بها، بطرائق فعالة متعددة تؤثر فيها وتتأثر بها. جميع هذه المنظومات نباتية كانت أم حيوانية، عدا الإنسان، تنسجم مع نظم الطبيعة وتتناغم مع إيقاعاتها بفعالية، طالما توافرت المواد الأساسية للحياة، وهي الهواء والماء والغذاء. فهذه الكائنات تتم دورتها الحياتية كاملة ضمن الحدود التي تسمح بها ثوابت الطبيعة، حيث الموارد التي تستمد منها القدرة على مواصلة الحياة.

وبكلمات أخرى؛ تعتبر هذه الكائنات، النباتات والحيوانات، جزءاً من الطبيعة لا تسمح لها خصائصها الفسيولوجية ودرجة تطورها، بالانحراف عن مسار الإيقاعات الطبيعية التي يسكن بعضها في هذه الكائنات نفسها، فهي غير قادرة إلا أن تكون عناصر في المنظومة البيئية نفسها، يسهم نشاطها بشكل تلقائي في إدامة التوازن البيئي الذي يحفظ الحياة.

أما الإنسان فهو عالم مختلف تماماً، انفصل عن المنظومة البيئية الطبيعية منذ اكتشف تميزه عن بقية الكائنات الحية، واكتشف الوعي الكامن في كيانه وبدأ باستخدامه وتوظيفه للخروج من أسر الطبيعة، ليصبح متمرداً يقف في مواجهتها بشكل عدائي، رغبة في تطويعها وتسخيرها لخدمته. فبدأ يصنع لنفسه بيئة أخرى تزداد مع الزمن بعداً عن البيئة الطبيعية، موظفاً في ذلك ما توصل إليه من تقدم في العلوم والمعارف على مختلف الأصعدة. فالطبيعة توفر للإنسان الموارد الأولية فقط وليس غير، فهي لا تطهو له طعاماً ولا تعقم له مياهاً، ولا تزوده بوسيلة انتقال أسرع من الحصان، ولا تخيط له الملابس ولا تقيم له حفلات، ولا... ولا... وهو في سياق انفصاله عن الطبيعة والابتعاد عن هيمنة إيقاعاتها، أسرف في التفريط والهدر لمواردها، وأسرف كذلك في إلحاق أضرار لا حصر لها بالمنظومة البيئية.

إن جميع الأنشطة التي نمارسها في حياتنا اليومية، أفراداً ومجتمعات، لها في نهاية المطاف مردودات على كمية الموارد الطبيعية المتوافرة، وعلى جودتها في هذا الكوكب. الزيادة السكانية والتوسع في التصنيع وزيادة الطلب على المواد الخام، تسلط ضغوطاً شديدة على هذه الموارد، وتسلط كذلك ضغوطا شديدة على الوضع البيئي، يستطيع بعض الدول الغنية التعامل مع تداعياته السلبية بكفاءة عالية، في حين تعجز دول أخرى عن ذلك. فالكثير من الأنشطة الإنتاجية، خاصة في مجال الطاقة، يتم من خلال عمليات ذات اتجاه واحد غير رجوعي، فهي موارد غير متجددة. وهذه الأنشطة لا تكتفي باستنزاف الثروات الطبيعية، بل تترك في الوقت نفسه آثاراً سيئة على البيئة. فالتدهور البيئي الذي لم يعد خافياً على أحد، في معظم مناطق العالم، هو إحدى الإشارات الأولى الدالة على عدم قدرة المنظومات الاجتماعية والاقتصادية، على إدامة الموارد في أطر القوانين والأعراف السائدة الآن، محلياً أو إقليمياً أو دولياً.

يرى بعض المختصين بشؤون البيئة، أنه من المستبعد أن تُستنزف الموارد غير المتجددة، مثل المعادن والبترول والغاز والفحم تماماً، وذلك لأن ازدياد ندرتها التدريجي يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع أسعارها، ويدفع بالتالي من ترتبط مصالحه بتوافر هذه المادة أو تلك، إلى حث الخطى والسعي إلى إيجاد البدائل، كإعادة التصنيع أو تسهيل الحصول على مصادر جديدة، دون الإخلال بحسابات وتوازنات الأسواق.

على الجانب الآخر، تظهر المؤشرات أن الموارد المتجددة نفسها، والتي تشمل المياه والهواء والغابات

وخصوبة التربة والثروة الحيوانية والسمكية، هي الأخرى تحت الضغط الشديد الذي تسلطه ممارساتنا الحالية. فهناك حقيقة لم يعد من الممكن إخفاؤها، وهي أن هذه المصادر في حالة من الشح من جهة وحالة من التدهور من جهة أخرى، ويكفي للتدليل على ذلك أن نذكر شحة المياه الصالحة للاستهلاك البشري، وتقلص المساحات الخضراء، كأمثلة بسيطة بادية للعيان.

الموارد الطبيعية، المتجددة وغير المتجددة، هي الأساس في الحياة على هذا الكوكب، إلا أن واقع الحال يشير إلى أنها لا تدار بالطرائق السليمة، ففي الوقت الذي يتضاعف فيه سكان العالم دون ضوابط، وتتراجع معدلات التنمية، أو تستقر في أحسن الحالات في بعض الدول، وفي الوقت الذي تعجز فيه المنظمات الدولية عن طرح حلول عملية لمواجهة مشاكل تتعلق بتحسين الظروف المعيشية، لما يقرب من ثلاثة مليارات شخص في مختلف بقاع العالم يعيشون تحت خط الفقر، يستمر الضغط على هذه الموارد ويتزايد مع الزمن، طالما بقيت مفاهيم التنمية المستدامة شعارات براقة تطلق في أروقة الندوات والمؤتمرات، وليست ثقافة يتحلى بها الفرد وتنعكس في سلوكياته وتعاملاته مع الموارد الطبيعية المتاحة له.

إنه كمين يقبع في انتظارنا على بعد بضع عشرات من السنين، وها نحن قد استلمنا العديد من رسائل التنبيه حول حجمه وحول موقعه الزمني، فما الذي لدينا من وسائل لتجنب الوقوع فيه؟ وما الذي نستطيع تهيئته لمواجهة ذلك؟!

سيتطلب الهروب من هذا الكمين جهداً غير عادي على المستوى الدولي، فهو يتطلب إجماعا عالميا على انتهاج استراتيجية واحدة للحفاظ على الموارد الطبيعية، وتعاونا واسعا عبر الشعوب والثقافات لوضع هذه الاستراتيجية موضع التطبيق، ويتطلب كذلك العمل على غرس قيم إنسانية جديدة، ومضاعفة نشاطات المنظمات البيئية، إذ إن الفشل في وضع استراتيجية جديدة لإدارة الموارد الطبيعية تضمن ديمومتها وتضمن حقوق الأجيال القادمة في التمتع بها، سوف يقود في حالات كثيرة إلى صدامات وكوارث في مناطق عديدة من العالم، تعمل بدورها على إضعاف آلية الإدامة الطبيعية لهذه الموارد. إلا أن حصاد ذلك لن يكون كما نأمل وكما تأمل كافة المنظمات البيئية الإقليمية والعالمية، فجميع هذه التشريعات والاستعدادات في حالة استحضارها ووضعها موضع التطبيق، تبقى قاصرة على تحقيق أهدافها، وذلك لأن بنيتها لا تسمح بذلك، فهي بنية فوقية هشة، وليست صلدة تستند إلى ثقافة اكتسبت قوة وصلابة من خلال مؤسسات رسمية تربوية، جعلت صداقة البيئة والحفاظ على نقائها أحد أبرز المحاور في رسالتها التربوية، وعكست ذلك في بنيتها البرامجية.

Email