الكتاب والبيت الذي لم يعد قائماً!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ ألبرتو مانغويل كتابه الجميل «فن القراءة» بهذه العبارة: «عندما كنا في الثامنة أو التاسعة، في منزل لم يعد قائماً، أعطاني أحدهم نسخة من كتاب مغامرات أليس في بلاد العجائب، وعبر المرآة..وكان هناك الكثير مما لم أفهمه في قراءتي الأولى للكتاب، لكن لم يبدُ لي أن الفهم كان مهماً وقتها»، في العبارة أمران استوقفاني، بيت الطفولة الذي لم يعد قائماً، والكتاب الأول الذي يشتريه لنا أحدهم، إذ في الطفولة يكون من الصعب علينا شراء الكتب عادة، لأننا لا نملك المال الكافي أولاً، ولأننا لا نعرف كيف نختار الكتاب الأول في حياتنا، لكننا حتماً سنعرف كيف نختار الثاني في ما بعد!

للكتاب الأول رائحة غامضة، تشبه رائحة خشب محروق، كما يقول مانغويل، تبقى في الذاكرة وتتضوع مباشرة بمجرد أن نفتح أي كتاب، وكأن رائحة الكتاب الأول تشبه بصمة ثابتة أو حمضاً جينياً ستتناسل منه كل الكتب، التي سنقرأها في حياتنا، لذلك لم أنس أبداً ذلك الكتاب الأول، الذي صحبتني جدتي لشرائه في عمر التاسعة ربما من «مكتبة الحكمة» بدبي، حين كان مقر المكتبة في ميدان جمال عبدالناصر «بني ياس حالياً» بجوار البنك البريطاني!

كان كتاباً صغيراً، بغلاف سميك ومصقول ثبتت عليه صورة فوتوغرافية للسيدة كوري، أوراق الكتاب كانت بيضاء اللون ومصقولة، وقد كان جزءاً من سلسلة طويلة تتحدث عن عظماء التاريخ الإنساني بعنوان «الناجحون»، الكتاب الذي اخترته تناول حياة ومآثر مدام كوري، العالمة البولندية التي اكتشفت عنصر الراديوم في الطبيعة أثناء أبحاثها التي أجرتها في جبال كروشنا في جمهورية التشيك، والتي كرست بقية حياتها حتى وفاتها لدراسة الخصائص العلاجية لهذا العنصر، وتوظيفه لعلاج أمراض الحركة المستعصية كالشلل وغيرها.

على اكتشافها الخطر هذا تقوم اليوم مصحات علاجية ضخمة في جمهورية التشيك تستخدم هذه المياه ذات الخاصية العلاجية الفائقة الأهمية، والتي لا تتوافر إلا في تلك المناطق، وقد فاجأتني صورة السيدة كوري حين وجدتها مثبتة في مدخل المصح العلاجي، الذي ترددت عليه منذ ثلاثة أعوام، كانت هي نفسها صورة الغلاف بثيابها الرمادية والوجه ذي القسمات المنهكة، التي لم تغادر ذاكرة طفولتي، لقد خصص المصح غرفتها التي أقامت فيها منذ 100 عام، لتكون متحفاً لمقتنيات العالمة التي قيل إنها توفيت بإشعاعات الراديوم نفسه!

هذا هو الكتاب الأول، أما بيت الطفولة الذي لم يعد قائماً فإن في حياة كل منا هذا البيت، الذي يختبئ في الذاكرة بحمولة ذكريات لا يمكن الخلاص منها!

 

Email