الخلود والنسيان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أحد من مخلوقات الكون يسعى للشهرة سوى الإنسان، وهو الوحيد الذي يسعى للخلود أيضاً، وربما كان الخلود من أول ما توقف عنده الإنسان وفكر فيه واحتار كيف يتوصل لمعادلته وتحقيقه.

وقد ذكرت الأسطورة السومرية التي كتبها أبناء حضارة الرافدين سعي الملك جلجامش المتحدر من أم تنتمي للآلهة وأب بشري، ما جعله يسعى لاستكمال النقص البشري في تكوينه باحثاً عما يحقق له الخلود وقافزاً على جزئه البشري، وبالفعل يدخل جلجامش في متاهات رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر لتحقيق هذا الأمل الذي تحكي الأسطورة أنه لا يتحقق رغم كل شيء، فالخلود لله وحده!

ومع ذلك ففي كل ما نراه ونتعامل معه اليوم نجد أن لوثة السعي للخلود مزروعة في أذهان الكثيرين ممن يسعون له بالشهرة، وبالأعمال العظيمة، وبالفن، وبفعل الغرائب وتحقيق الأرقام القياسية وغير ذلك.

وحين تبلغ شهرة أحدهم منتهاها يضيق بها ويتمنى لو أنه كان شخصاً بسيطاً عادياً كملايين البسطاء الذين يسيرون في الطرقات يفعلون ما يحلو لهم دون أن يلتفت إليهم أحد، أو يحاسبهم أو يزعجهم، أو يطاردهم بسبب تلك الشهرة.

وهنا تعتبر الأميرة الإنجليزية ديانا التي قضت في حادث سير في نفق فرنسي العام 1998 واحدة من أشهر الناس الذين قتلتهم الشهرة بسبب تضييق الخناق عليها ومطاردتها من قبل مصوري المشاهير والصحفيين.

فالإعلام صنعها وقتلها في نهاية المطاف! النجم الأميركي الشهير (مورغان فريمان) صاحب الجوائز الكبيرة والأفلام الخالدة قال أخيراً في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية إنه سئم الشهرة، لأنها تقيد حريته، فلا يستطيع السير في الشارع، أو التسوق، أو التنزه كبقية البشر، لقد أصبحت الشهرة عبئاً ثقيلاً عليه!

وسواء كنت أميراً أو ملكاً أو نجم كرة قدم أو نجم سينما أو حتى نجم تلفزيون وصحافة فإنك تشكل إغراء لا يقاوم لمن يراك تسير في السوق أو في أي حديقة أو تشرب قهوتك في أي مقهى، إنهم يسارعون للسلام عليك والثرثرة معك، وبالطبع التقاط صور السيلفي، أنت لا تعرفهم وتود أن يتركوك في حالك.

لكن الشهرة أعطتهم هذا المبرر، هم يظنون أنك تحب أن تكون محط اهتمام، بينما أنت تريد أن تكون محط نسيان وتترك في حال سبيلك، فقط مللت من هذا الشعور بأنك منتهك ولا خصوصية لك!

إن معادلة الشهرة والخصوصية، الخلود والنسيان، من القضايا الفلسفية التي تصدت لها الحضارات منذ القدم وناقشها الفلاسفة والمفكرون، وهي واحدة من أكبر ما يعانيه إنسان اليوم الذي للأسف انتهك وبالغ في انتهاك خصوصيته عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر سعي الكثيرين ليكونوا نجوماً على هذه المواقع.

Email