إنها الأفكار التي لا تموت أبداً!

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحلّق الفكرة بأجنحة من قوة تأثيرها، تعبر أزمنةً وعصوراً، تكون الفكرة في زمن سقراط محاصرة ومحاربة ومطاردة من بيت إلى بيت ومن ساحة إلى أخرى، أنصارها مطاردون منفيون مختبئون خوفاً من العقاب والسجن والشنق.

ثم بقوة لا أحد يعرف مصدرها إلا الفكرة ومن آمن بها، تجدها قد غادرت ذلك الزمن وظلت تحلّق في طيران أسطوري بلا تعب ولا يأس، حتى تحط في زمن بعيد مختلف، كان ذات يوم غيباً، الغريب أن الفكرة المحاربة نفسها تستقبَل بعد قرون بالترحاب والإكرام والإجلال والاحترام!

هل يتطور البشر في علاقتهم مع الأفكار؟ هل تنعدم حساسيتهم تجاه مخاطرها وتأثيراتها، هل تختلف أجهزة الاستقبال لديهم، فما يخيف الناس في أزمنة لا يخيف آخرين، بل بالعكس تماماً، تنعدم لديهم تلك النظرة الخائفة منها، تصير الفكرة محل ترحيب كبير من قبل أهل الزمان الجديد، هذا سر آخر من أسرار قوة الفكرة وصمودها وأبديتها!

قال فيلسوف التنوير الكبير ابن رشد: «للأفكار أجنحة تطير بها»، وهو أحد أكثر المفكرين الذين يعرفون تماماً قوة الفكرة وأسطوريتها، لقد طورد وطوردت أفكاره، وقيل إن كتبه حُرقت تماماً، وسواء كان ذلك صحيحاً أم لا.

فإن ابن رشد تحوّل عبر عبوره الزمن من شخص إلى فكرة عبرت كل سجون ومنافي ومتاريس الجبابرة، لتستقر في عقول وقلوب كل الباحثين والعاشقين عن التنوير والحرية والعقل، فلا شيء يمكنه أن يقص جناحي الفكرة أو يغتالها، إنها هناك تحلّق عالياً جداً وبعيداً عن رصاص الطغاة!

وأنا أعبر شوارع القاهرة وأتجول في معالمها ومتاحفها، وأتعرف عن كثب إلى ملوكها وعصورها التاريخية، في أثناء هذه الجولة كنت أدرك تماماً أنني لست سائحاً أجنبياً أتعرف إلى معالم تاريخ أمة عريقة، ولست أجنبياً يأتي منبهراً بما يمتلكه المصريون القدماء، كنت أعي وعياً ناصعاً مستنيراً أنني أتنقل بين أفكار عظيمة لا حدود لعظمتها.

وأن هذه الأفكار بدءاً بأزمنة ملوك مصر القدماء في الحضارة الفرعونية وانتهاء بأفكار ثورة 25 يناير هي ما صنع مصر، وهي ما كوّن الأمة المصرية، وأنه مهما مر الزمن فلا شيء يمكن أن ينمحي أو يزول مهما بذلت في سبيل ذلك من محاولات!

لا الإهرامات ولا المقابر العظيمة، ولا المساجد ولا القصور والميادين والكتب ونقوش البردي والمسلات و..إلخ، هذه كلها أفكار عظيمة أكثر من كونها مباني عظيمة، إنها التجسيد المادي للأفكار الكبيرة، لذلك فإن الأفكار باقية ما بقيت تجسيداتها، حتى إن هُدم المسجد أو أُغلق القصر أو هُجر المعبد، للأفكار أجنحة تطير بها عبر الزمن دائماً!

Email