تحدَّثْ.. لأراك !!

ت + ت - الحجم الطبيعي

حكى أحد الأساتذة في كتاب سجل تجاربه الحياتية أثناء قيامه بتدريس مادة علم النفس في إحدى جامعات كاليفورنيا عن حكاية مفجعة بطلتها إحدى طالباته، كتب الأستاذ ليو يصف تلك الطالبة «كانت متفوقة وذكية وجميلة بشكل لا يصدق، كانت تتحرك وكأن هالة جذب مغناطيسية تتحرك معها.

وفي كل مرة كانت تقدم أحد امتحانات المادة كنت أعجب بطريقتها في التحليل وكنت أسجل بعض ملاحظات الإعجاب بتلك الإجابات»

ذات صباح دخل الأستاذ (ليو) إلى الفصل كعادته يحمل أوراقاً أخذ يوزعها على الطلاب، وحين نادى على اسم طالبته المتفوقة لم يأت أحد لاستلام الورقة، كرر النداء، لكن لا أحد، قال لنفسه ربما لم تحضر اليوم، وضع ورقة إجابتها جانباً وأكمل الدرس. في نهاية اليوم، وفي مكتبه الصغير، دخل عليه أحد تلاميذه ليقول له بصوت منخفض: دكتور لقد وجدت زميلتنا منتحرة مساء البارحة !!

ضرب دكتور علم التحليل النفسي أخماساً في أسداس، فجّر رأسه ذلك السؤال الذي بقي بلا إجابة: لماذا؟ كيف لفتاة مثلها أن تنتحر؟ لا بد أن هناك خطأ ما في الحكاية! لم يكن ينقصها شيء، الجمال، الشباب، الذكاء، المعجبون، الأسرة الغنية وسيارة الفيراري، فكيف أمكنها أن توقف تلك السيارة وتكتب رسالة وداع مقتضبة لوالديها، وتلقي بنفسها من ذلك الجرف العالي؟

لا أحد كان يملك أية إجابة ولا حتى والديها المفجوعين! نسي الأستاذ أن للحياة زوايا نظر مختلفة جداً، وأن لكل منا طريقته في النظر إلى الأمور، وأن ما تراه نعمة كبرى يراه البعض لا شيء، وأن نعمته تكمن في ما لا يمكننا أن نتصور مدى بساطته!

بعد سنوات من هذه الفاجعة سيضع الأستاذ (ليو) كتاباً يتحدث عن ذلك السر الإنساني المفقود في علاقات الناس بعضهم ببعض. فحتى أقرب الناس لا يعلمون شيئاً عما يجول في أعماق بعضهم وكيف تتآكل أرواحهم بصمت، وسيكتشف أن معظم الناس يعيشون الحياة في مسارات متوازية لكنها لا تتقاطع أبداً.

إنهم يرون بعضهم كثيراً ويتحدثون عبر الهاتف، ويتناولون الطعام معاً، وقد يسافرون معاً ويسهرون ويبتسمون لبعضهم عندما يلتقون، لكنهم بعيدون جداً عن بعضهم بعضاً، فهم لا يشعرون ببعض ولا يهتمون ولا يتفهمون، ولا ينصتون لما يدور في الداخل ولا يقوله اللسان.

إن ما لا نقوله هو حقيقتنا، وليست هذه الثرثرة التي نملأ بها الفراغ !

اكتشف ليو بعد سنوات أن كل المحيطين بتلك الطالبة كانوا يحبون جمالها ويستمتعون بجاذبيتها. كانوا يبحثون عن احتياجاتهم ومتعتهم من خلال التقرب لها، لكن لا أحد كان يحبها هي، يستمع لوجع قلبها، أو ألمها، كانوا يمشون بالتوازي معها لكنهم كانوا يحاولون ألا يتقاطعوا معها، لأن علاقة التقاطع والإنصات للداخل تشكل الالتزام الذي يهرب منه الجميع قدر استطاعتهم !

Email