سنواتك التي تمضي!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقضى الإنسان سنوات طفولته الأولى مكتشفاً، ينظر إلى الحياة من ثقوب صغيرة هنا وهناك، يتلصص عليها دون حذر أو حسابات من غرف بيته وأزقة الحي الذي يسكنه، يتعرف إلى الآخر المختلف عنه من خلال اللعب، فصل الروضة، رحلات المدرسة، الخناقات التي تحصل بين الفتيان في الشارع، خلافات أمه وأبيه.

وبشغف أكبر، يركض في كل الجهات كلما كبر قليلاً، ليتعرف إلى الحياة أكثر، ومن أكبر ثقوبها وأبوابها، يحالفه الحظ أحياناً في العثور على فرص لا تعوض للمعرفة وللبهجة والنجاح والحصول على الحب والأصدقاء والمال، ويخونه في أحيان أكثر!

لا تساعدك الأيام والوقت والعمر عادة كي تكون كائناً خفيفاً حقاً، يتنقل بين كل المفاصل والتفاصيل بسهولة من منزل لآخر، من وظيفة لأخرى، من حب لحب آخر، ومن مدينة إلى أخرى، لأن الواحد منا محكوم بضوابط الذاكرة والعاطفة والدين واعتبارات العلاقات وقيود العادات، وكثير مما يشدنا ويثقل حركتنا، صحيح أن بعض هذه الاعتبارات يحفظ توازناتنا، لكن الالتزامات هي أكثر ما يجعلنا كائنات ثقيلة تدفع للسأم فعلاً!

يريد الإنسان دائماً كاستعادة لحلمه القديم أيام طفولته، أن يظل إنساناً، لا يتلفت حوله كثيراً، ولا ينظر خلفه بحذر أو خوف من الأساس، ودون أن يدفعه شيء للندم والحسرة والحزن والألم، الحياة في تلك الأيام البعيدة، حين نكون أطفالاً أو صغاراً بلا تجربة كثيفة وثقيلة، تعتبر تجسيداً صافياً للبهجة والمتع واللا مسؤولية، حين يراكم الإنسان الكثير من المواقف والتجارب والانكسارات والخسائر، فإنه يكون قد وصل للسنوات الثانية من عمره، حيث يبدأ يتلصص على الحياة، ولكن من ثقوبها الكبيرة، وبكثير من الحذر!

حينما لا يكون لديك ما تخسره، يكون قلبك جسوراً بما يكفي، لتشعر كما يشعر عصفور، لا يقدر شيئاً كما يقدر حريته وفضاءه وقوت صغاره، هذه الجسارة وهذا الاستغناء عن الأشياء الكثيرة، تحولك إلى عدو لدود للبعض، دون أن تعلم أنت لماذا، لكنهم يعلمون ويظلون يترصدونك عند كل المنعطفات.

 ثم تصبح كائناً لا تطاق خفته، حسب تعبير ميلان كونديرا، حين تملك وحين تتعلق بالأشياء والذكريات والممتلكات والإنجازات، وحين تتدافع وتتصارع وتدوس غيرك، عندها فقط، تصير كائناً حذراً جداً، ولا تعود الأيام ولا الوقت ولا العمر سلسا كما كان ولا تعود انت كائنا خفيفا أبدا.

تعد نفسك بأنك لن تكبر وستظل متفتحاً وممتلئاً بالشغف، تماماً كوردة الخلود التي لطالما سعى جلجامش السومري للحصول عليها، وتظل متباهياً بقدرتك تلك، ومتمتعاً بذلك العنفوان، إلى أن تهطل عليك السنوات الثالثة في عمرك، سنوات تجعلك تغادر الطفولة إلى غير رجعة، فتتلصص على الحياة، ولكن من ثقوبها الضيقة مرة أخرى، لكن بكثير من الخوف والشك والحذر، تصير تحذر حتى من أصدقائك، ثم تخاف حتى من نفسك!

Email