جديد «حماس».. تنازلات مراوغة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين الواقعية السياسية كحكم جاهز لدى التبريريين، و«أول الرقص حنجلة» المنبثق من رحم التجارب المشابهة، يتأرجح الحكم على التغييرات البرنامجية والقيادية في حركة حماس التي يعتبر كثير من الفلسطينيين ما أعلنته مؤخّراً حبّة جديدة في سبحة التنازلات. وبغض النظر عن النصوص والكلمات.

فإن التوقيت والنوايا سيدا الموقف في قراءة منهج «حماس»، حيث يرى مراقبون في التغييرات المعلنة من جانب الحركة تكريساً لمنهج التلوّن ونقل البندقية من كتف إلى آخر، وتلاعباً بمسألة المرجعيات والولاء، وبخاصة في موضوع العلاقة مع تنظيم «الإخوان» وإيران.

وفي هذه النقطة بالذات يشكك محللون في إمكانية خروج «حماس» من تحت عباءة التنظيم الدولي، سيما وأن بعض قياداتها أقرّوا أن الصيغة الواردة في الوثيقة الجديدة لا تعني تخلي الحركة عن التنظيم.

والأمر ذاته، لكن ربما لدوافع مختلفة، ينطبق على ولاء الحركة لإيران، وهذا ما بدا واضحاً في تصريحات ممثل الحركة في طهران الذي أدلى بتصريحات تؤكد هذا الاستنتاج، وإن حاولت الحركة وضع قدم هنا وقدم هناك في تحالفاتها وولاءاتها.

عندما نعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب «حل الدولتين»، وقابله رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو بالترحاب وبإعلان عن مستوطنات جديدة، كانت أنظار الفلسطينيين، تتجه وتترقّب ما الذي ستفعله قياداتهم، ولا سيما العودة إلى ورقتهم الوحيدة الممكنة، وهي الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام.

ِأسئلة وأجوبة

قبل أن تتفاعل هذه الأسئلة في الأذهان التوّاقة لأجوبة، خرجت «حماس» على الفلسطينيين بشيئين جديدين لتزيد على الأسئلة رشّة حيرة وحفنة تساؤلات.

فالحركة خرجت للعلن بوثيقة تعترف بدولة فلسطينية على حدود 67، أي على أقل من 20 في المئة من فلسطين التي كانت «أرض وقف يحرّم التفريط بأي جزء منها»، حسب الخطاب الدارج لتيارات الإسلام السياسي.

وبعد إعلان الوثيقة أعلنت الحركة عن تغييرات قيادية، أبرزها «انتخاب» إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي للحركة بدلاً من خالد مشعل. ما الذي تغيّر لتقبل «حماس» بما رفضته منذ تأسيسها عام 1988؟ ولماذا تحلّل لنفسها ما حرّمته على غيرها؟.

في حين أن وثيقة حماس قرنت الـ«نعم» بـالـ«لكن»، فإن الهدف والمقصود هو الـ«نعم»، أما الـ «لكن» فليست سوى لغة التبرير للقواعد والأنصار، حسب العديد من المحللين. بعض قادة الحركة عبّروا عن أملهم أن تنجح هذه الوثيقة في فتح أبواب الدول الأوروبية أمامها، ما يجعلها رقماً في معادلات التسوية السياسية.

هذا يعني أن الحركة تحاول الظهور بمظهر المتحلل من الإيديولوجيا لصالح البراغماتية، وثمّة محاولة لتكريس الكيانية الانفصالية في غزة، مع غطاء دولي يفتح ثغرة في جدار الحصار.

وهناك من يتوقّع أن لا يقبل المجتمع الدولي بـ «حماس»، ذلك لأن وثيقتها لا تلبي شروط اللجنة الرباعية الدولية، لكنها ربما تسمح لها بالمناورة في تحسين علاقاتها مع بعض الدول الأوروبية.

43 عاماً

الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل رأى أن «حماس» بوثيقتها الجديدة بدأت من حيث بدأت المنظمة قبل 43 عاماً في العام 1974.

لكن حين قُبِلت المنظمة في ذلك الوقت كانت هناك ثلاثة شروط أميركية وافقت عليها، وهي التخلي عن الإرهاب وإدانته (المقاومة)، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والتخلي عن بنود في الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع مسارها الدبلوماسي.

وأضاف، أنه حتى تكون «حماس» مقبولة دولياً وعربياً عليها أن تلبي الشروط الثلاثة التي لبتها منظمة التحرير عام 1988. ولفت إلى أن المجتمع الدولي الفاعل في موضوع التسوية قبل بالتعامل مع المنظمة بعد خمس سنوات من تلبية الشروط الثلاثة عام 1993، عندما وُقّعت اتفاقية أوسلو.

واستدرك، أن المجتمع الدولي والعربي لا يمكن أن يفاضل بين «حماس» والمنظمة، لأن «حماس» بوثيقتها الجديدة تكون واقفة على حدود المنظمة قبل 40 عاماً، فما الداعي للتعامل مع جهة غير منظمة التحرير المنسجمة مع متطلبات الاندماج في المجتمع الدولي؟

العلاقة بـ«الإخوان»

ويرى مراقبون أن وثيقة «حماس» لا تنفي علاقتها الدولية بالتنظيم الدولي للإخوان، حيث استخدمت لغة فضفاضة، ورغم ذلك لاحظوا أن في النص نوعاً من النأي بالنفس عن «الإخوان»، مع الحرص على عدم القطيعة بهدف عدم إثارة غضب التنظيم الدولي.

وهذا منهج تضليلي أكثر منه تكتيكاً سياسياً. المحلل السياسي الفلسطيني طه الخطيب قال إن «حماس» لا تنكر علاقتها بـ «الإخوان»، لأنهم جزء من التنظيم الدولي للجماعة، ولكن التصريح يوضّح فقط أن حماس «حركة فلسطينية سياسية بمرجعية إسلامية»، وهذه الصيغة تبقي الباب مواربا لأكثر من قراءة.

التغييرات في «حماس» لم تقف عند البرنامج السياسي، بل تعدّته إلى المنظومة القيادية وبخاصة رأس الحركة، حيث اختارت بطريقة «الشورى» إسماعيل هنية بدلاً من خالد مشعل، وهو تغيير كان متوقّعاً منذ أكثر من شهرين حين اختير يحيى السنوار مسؤولاً للحركة في غزة بديلاً لهنية.

لا مفاجأة

ولم يُمثل انتخاب هنية رئيسًا للمكتب السياسي لـ«حماس» مفاجأة لدى متابعي «انتخابات» الحركة التي بدأت في يناير من العام الجاري، ولا سيما بعد تعيين الأسير المُحرر يحيى السنوار قائدًا للحركة في غزة. ويرى الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الصواف أن قائد «حماس» لا يمكن أن يُغيّر من مبادئها أو استراتيجياتها، لكنه «يُنفذ قرارات المؤسسة التي هو أحد أركانها».

وتنقل وكالة «صفا» الفلسطينية عن الصواف قوله إن التغيير الذي يمكن أن يُحدثه هنية يتمثل في طرق تنفيذ الاستراتيجيات، قائلاً: «قد يُقدّم شيئًا ويؤخّر آخر، ويبدع في جانب دون آخر.

له رؤية في التنفيذ وليس في تغيير السياسات». ويقول: «ربما يكون هنية أكثر ليونة أو قبولًا عند حركة فتح وعباس، وقد يساعد ذلك في اختراق هذا الجدار الأصم الذي حال دون تحقيق المصالحة».

وينسجم انتخاب هنية مع «الاعتدال السياسي» الذي تحاول الوثيقة الجديدة لـ«حماس» إظهاره. ويرى متابعون أن هناك مسؤولية أخرى ملقاة على عاتق هنية وهي تسويق الوثيقة السياسية الجديدة للحركة، أما نجاحها في ذلك فهو مرتبط بمدى الثقة في سياساتها وفي ما إذا كانت التغيير ذا مصداقية وليس تلاعباً بالكلمات.

أستاذ العلاقات الدولية والمحلل الفلسطيني د.أسامة شعث يرى أن انتخاب هنية ابن غزة ولادة ومنبتاً ونشوءاً، قد يعيد تسليط الضوء على «حماس» من قلب غزة، خاصة أن الحركة انشغلت بالعلاقات الخارجية أكثر من تركيزها على المقاومة.

ورجّح استمرار إقامة هنية في غزة بعد توليه رئاسة المكتب السياسي، حيث التوجّه يقضي بالتركيز على رفع أو تخفيف الحصار مع بقاء الكيان الانفصالي.

استمالة المجتمع الدولي تصطدم بالموقف الإسرائيلي

إذا كان هدف حركة حماس من وثيقتها الجديدة استمالة المجتمع الدولي الذي هو «الغرب»، فإن تحقيق هذا الهدف رهن بالموقف الإسرائيلي. إسرائيل لم تقبل الحديث مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية طيلة عقود، ولم تقبل أن تفتح حديثاً مع المنظمة إلا حين اضطرت لفعل ذلك تحت ضغط الانتفاضة الفلسطينية الكبرى.

وبعد أن قدّمت قيادة المنظمة برنامجاً سياسياً واقعياً حظي بقبول دولي على نطاق واسع تكلل بخطاب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1988 في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ردود فعل إسرائيل على وثيقة «حماس» يشير إلى أنها ستسعى لمزيد من التنازلات من «حماس».

ولعل مشهد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في مقطع فيديو، وهو يمزّق وثيقة «حماس» أكبر دليل على ذلك. نتانياهو قال في الفيديو الذي نشره الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية أوفير جندلمان، إن «وثيقة حماس الجديدة تلفيق كامل للحقيقة».

خداع العالم

وكان دافيد كيز الناطق باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي اتهم «حماس» - فور صدور الوثيقة - بمحاولة خداع العالم عبر الإعلان عن وثيقتها الجديدة، مضيفاً أنها «لن تنجح في ذلك». كما اعتبرت الهيئة المكلّفة بالأراضي المحتلة في وزارة الجيش الإسرائيلي أن حركة حماس تهزأ من العالم عبر محاولتها تقديم نفسها عبر هذه المسماة وثيقة وكأنّها منظمة منفتحة ومتطورة.

الباحثة الإسرائيلية ليلى سورا اعتبرت أن الاعتراف بحدود عام 1967 لا يعني «اعترافاً بإسرائيل»، مضيفة «إن الشيء الجديد الوحيد هو إدراج هذا الاعتراف للمرة الأولى في وثيقة خاصة للحركة».

وقال المحلل العسكري الإسرائيلي عاموس هرئيل، إن انتخاب إسماعيل هنية رئيساً لحركة حماس خلفاً لخالد مشعل، يعمل على إعادة قطاع غزة المحاصر إلى مكانته السابقة، مشيرًا إلى أنه سوف يتعامل بحذر شديد مع الدول التي تحاول السيطرة على الأجندة السياسية للحركة الفلسطينية.

هنية ومشعل

وأكد أن تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية تقول إن فوز هنية لن يمحو تأثير مشعل، فمن الممكن أن يصبح هنية أشبه بالوجه الرسمي لـ«حماس»، بينما يستمر التشاور مع مشعل في جميع الأمور.

وأضاف المحلل العسكري الإسرائيلي -في مقاله بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية- أن الرئيس الجديد لـ «حماس» يحاول أن ينأى بالحركة عن اضطرابات المنطقة العربية، خاصة إيران، والحرب التي تخوضها في سوريا، إرضاء لدول أخرى. وأشار إلى أن تل أبيب تتابع بشدة موقع إقامة رئيس حماس الجديد.

موضحًا أن هنية من الممكن أن يرى أنه حال بقي في غزة، قد يعرض نفسه ليكون أسيراً داخل القطاع.

رسائل

قال الكاتب الإسرائيلي جاكي خوجي في مقاله بصحيفة معاريف إن الوثيقة الجديدة لـ«حماس» هي خلاصة عمل استمر أكثر من عام، مشيراً إلى مسارات متباينة في الوثيقة «فرغم أن لغتها الجديدة تؤذي من يسمعها من الإسرائيليين، لكن سطورها تخبئ رسائل سياسية عديدة».

Email