النجاح الاقتصادي والصروح الثقافية والمساعدات نماذج تأثير فاعلة

«القوة الناعمة» ريادة أميركية وبراعـة صينية وجاذبية إماراتية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«جدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه في العام 1989، ذلك أن المطارق والجرافات ما كانت لتنتج لولا انتقال الصور المبثوثة من ثقافة الغرب الشعبية على مدى سنوات طوال فاخترقت الجدار قبل أن يسقط».

بتلك الزاوية التي تبرز جانبًا مُهمًا من جوانب تأثير الثقافة والفن في إحداث تغيرات أعمق من التدخلات الخشنة أو العنيفة، استدل أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي، الذي كان مساعدًا لوزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطني، في كتابه «القوة الناعمة:

وسيلة النجاح في السياسة الدولية» الصادر في العام 2004 في تجسيده لأهمية «القوة الناعمة».

ومفهوم «القوة الناعمة» حسبما يُقره جوزيف ناي –وهو أول من صاغ ذلك المفهوم- هو «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي - أي القوة الناعمة- تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما ومثله السياسية. فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الأخرى تتسع قوتنا الناعمة».

وفي منظور ناي، ترتكز القوة الناعمة لبلد ما على ثلاثة موارد، هي ثقافة ذلك البلد (في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين)، وقيمه السياسية (عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج)، وسياساته الخارجية (عندما يراها الآخرون مشروعة وذا سلطة معنوية أخلاقية).

مكانة

والقوة الناعمة هي «مفهوم حديث في العلوم السياسية»، حسبما يقول نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتور عمرو هاشم ربيع، وهو مفهوم مرتبط باستخدام الدول لإجراءات غير عنيفة «غير خشنة» من أجل الوصول إلى أغراض مُحددة مرتبطة بأهداف النظام السياسي للدولة التي تستخدم تلك القوة الناعمة.

وهنالك العديد من أوجه تطبيقها في سياسات الدول، يُحدد ربيع أبرزها في استخدام الرياضة وكذا الشباب والسياحة والبرلمانات كقوى ناعمة تقدم نموذجًا وتجسد أفكارًا ومبادئ عامة كمدخل لتعزيز مكانة الدولة وتواجدها.

ويضيف الباحث السياسي في ذلك الإطار استخدام «الحضارة» ضمن القوة الناعمة التي تستخدمها الدول، وأيضًا «المجتمع المدني». مشددًا على أن «القوة الناعمة تتبعها الدول التي تعتمد على الدبلوماسية الهادئة والموزونة، والتي لا تلجأ إلى الحلول العنيفة أو الخشنة كفرض العقوبات والتهديد بها والتدخلات العسكرية وغير ذلك». ويؤكد أنه بشكل دائم فإن كل الدول التي لا تلجأ للعنف في سياستها يكون لديها قوة ناعمة.

وتجمع الولايات المتحدة الأميركية بين الأمرين (القوتين الناعمة والخشنة) حسبما يعتقد نائب مدير مركز الأهرام للدراسات، وكذلك بريطانيا وفرنسا، وتميل الصين أيضًا إلى القوة الناعمة.

ويشير إلى كون مصر -التي كانت تتمتع بقوى ناعمة بارزة في حقبة الستينات- صار بها نوع من «المحدودية» في الاستخدام، في إطار ما يواجهه البلد من تحديات على رأسها الإرهاب، إلا أنه يعتبر أن العديد من مصادر تلك القوة لا تزال تعمل مثل الأزهر والتعليم وغير ذلك.

جاذبية

وقد يتمكن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية؛ لأن هناك بلدانًا أخرى معجبة بمثله وتحذو حذوه وتتطلع إلى مستواه من الازدهار والانفتاح تريد أن تتبعه. وبهذا المعنى فإن من المهم أيضًا وضع جدول الأعمال واجتذاب الآخرين في السياسة العالمية.

وليس فقط لإرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، فهذه القوة الناعمة –جعل الآخرين يريدون ما تريد- تختار الناس بدلًا من إرغامهم، حسب ناي.

نماذج

والقوة الناعمة تمثل قدرة الدول على إقناع الدول الأخرى بمواقفها وسياستها والنموذج الذي تطرحه من خلال الجاذبية والإقناع وليس من خلال استخدام القوة، في تقدير أستاذ العلوم السياسية بالقاهرة الدكتور محمد كمال، والذي يُشير إلى العديد من أدوات القوة الناعمة ومن بينها السينما والإعلام والثقافة والموسيقى وغير ذلك من الأدوات التي تطرح من خلالها الدول نفسها كنموذج ناجح اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.

وهنالك العديد من الدول التي تعتبر أكثر براعة في استخدام القوة الناعمة، على رأسها –حسب كامل- الولايات المتحدة التي تقدم نفسها وثقافتها بشكل جيد وتنقل النموذج الأميركي من خلال أوجه الفن المختلفة سواء الأفلام أو المسلسلات أو الموسيقى أو غير ذلك، سعيًا منها للترويج للنموذج الأميركي.

وتعتبر الصين نموذجًا فريدًا في استخدام القوة الناعمة، ويقول أستاذ العلوم السياسية بالقاهرة إن القوة الناعمة للصين تبزغ بصورة كبيرة وواضحة في أفريقيا على وجه الخصوص من خلال المراكز الثقافية المختلفة.

وتطرح الصين نفسها من خلال تلك المراكز كنموذج ناجح وقوي عبر أدواتها الثقافية وتجاربها التي تنقلها للمنطقة عبر معاهد متخصصة لتعليم اللغة الصينية على سبيل المثال معهد كونفوشيوس، وأيضًا عبر استخدام الاقتصاد سواء خلال الاستثمارات والشركات والمنتجات الصينية أو من خلال المساعدات التي تقدمها لبعض الدول.

إمكانيات

المساعدات الاقتصادية والإنسانية التي تقدمها الصين كانت عاملًا من عوامل القوة الناعمة لها، وفي هذا الإطار يشير الدكتور محمد كامل إلى أهمية عنصر المساعدات الإنسانية في تجسيد القوة الناعمة والوجه الإيجابي للتنافس بين الدول في استخدام القوة الناعمة بما يعود بالنفع على المحتاجين في العالم. ويضرب في هذا الإطار المثل بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تقدم مساعدات للعديد من الدول لأغراض تنموية.

ويستطرد: «الإمارات نشطة جدًا في مجال المساعدات والمعونات لأغراض اقتصادية، وكذا فهي نشطة في المجال الإعلامي، وهنالك العديد من القنوات الإعلامية الإماراتية البارزة تعتبر من ضمن أدوات القوة الناعمة»، مشددًا على أن الدولة تطرح نفسها كنموذج ناجح اقتصاديًا ويستهدف سعادة المواطن، كما أنها دولة مسالمة تسعى للوساطة ورأب الصدع.

وتزخر دولة الإمارات بعوامل ومصادر القوة الناعمة إضافة للعوامل السابقة، ويؤكد في هذا الصدد مندوب مصر السابق في الأمم المتحدة السفير جلال الرشيدي على أن الإمارات سبّاقة، ولديها تجربة تستحق الإشادة وتسليط الضوء عليها.

وتأتي قوى الدولة الناعمة لتلعب دورًا بارزًا في الترويج للنموذج الإماراتي الناجح، والذي من ضمن محاوره «سعادة المواطن» فهنالك وزارة للسعادة وأخرى للتسامح، وهي قيم تعكس بوضوح النموذج المتفرد للدولة.

ومن بين مؤهلات وأدوات الدولة من حيث الشكل والمضمون من حيث استخدام القوة الناعمة تأتي البصمة الثقافية للدولة، والمهرجانات والجوائز، ومن بينها المهرجانات الفنية كذلك وخاصة على الصعيد السينمائي، حسبما يؤكد الرشيدي الذي يُشدد على تنوع أوجه وميزات استخدام الدولة للقوة الناعمة خاصة من خلال الفن والثقافة والدور التنموي في البلدان الأخرى التي تدعمها الإمارات بمساعدات اقتصادية تظل تجسيدًا.

واضحًا لقوى الدولة الناعمة، علاوة على كونها تتبع دبلوماسية هادئة. وكذلك فتح أبواب الدولة للجنسيات المختلفة في إطار من التسامح والتعايش السلمي بما يعكس نموذج الدولة المميز ويعد عاملًا من عوامل تجسيد تلك القوة.

محاكاة دبي

وتحولت مدينة دبي إلى نموذج تحاكيه معظم المدن النامية في العالم والتي تملك خططاً طموحة، إذ سرعان ما يتم ذكر أن المدينة الفلانية "ستصبح دبي ثانية". هذه الصورة التي يتطلع العالم إلى محاكاتها عن دبي توفر ذروة الرصيد الناعم الذي تطمح إليه أي دولة أومدينة في العالم.

وقد قامت الجاذبية الأميركية أساساً على "الحلم الأميركي" الذي جذب ملايين الأشخاص من دول العالم "لتحقيق أحلامهم" هناك، ووفر قبولاً لأميركا في الخارج.

لغة

تلعب اللغة دوراً ضمن مقومات «القوة الناعمة» للعديد من الدول –حسبما يؤكد محللون- وتسهم بصورة مباشرة في تعزيز القوة الناعمة للمملكة المتحدة والولايات المتحدة كما هو الحال في اللغة الإنجليزية، وكذا تسهم الفرنسية في تعزيز القوة الناعمة لفرنسا.

وتلعب المراكز الثقافية المختلفة للدول في بلدان أخرى دورًا مهمًا في إطار تعزيز القوة الناعمة مثل الدور الذي تلعبه الاستثمارات والشركات والمساعدات الاقتصادية.

الثقافة الصينية

على مدى عقد من الزمن، قامت الحكومة الصينية بتعزيز شبكات الاتصال والتواصل وإتاحتها أمام الجمهور غير الصيني. كما عزّزت معاهد كونفوشيوس التي تتيح تعلّم اللغة الصينية المعروفة باسم الماندرين، وبنشر الممارسات الثقافية (الخطّ الصيني)، وذلك من خلال مراكزها المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.

330

تمّ إحصاء أكثر من 330 مركزاً ثقافياً صينياً في جميع أنحاء العالم في العام 2014، بما في ذلك 18 مركزاً في فرنسا وحدها. وتشير التقديرات إلى أن 40 مليون أجنبي يتعلّمون اللغة الصينية. ومعهد كونفوشيوس الصيني، بات يضارع ويتجاوز نظراءه المتوزعة مثله في عواصم العالم.

267

تزيد الجامعات الصينية شراكاتها مع مؤسّسات أجنبية، وتكيّف مضمون مناهجها الدراسية، وأشكال هذه المناهج، لتحقيق النجاح في السباق العالمي للتميّز. وهناك 267 ألف طالب أجنبي وافد في الصين. واحتلت كل من جامعة تشينغوا وجامعة بكين المرتبتين 49 و52 على التوالي، من بين 200 جامعة ممتازة في العالم.

15

يُعتبَر الشتات الهندي، الذي يحوي ما يقرب من 15 مليون شخص، ناقلاً مهمّاً للنفوذ الهندي في بريطانيا والولايات المتّحدة. وهو يشارك في تطوير صناعة المعلوماتية في «وادي السليكون» في كاليفورنيا.

سياحة دينية

تمثل السياحة الدينية الهندية البوذية جذباً ثقافياً خاصاً للكثير من الأوروبيين والأميركيين، الذين يفتشون عن سلام داخلي، وحياة مستقرّة هانئة، من خلال تعاليم بوذا، خصوصاً منها تلك المتوضّعة في «نصوص السوترا».

60

تطور روسيا سياسة ثقافية نشطة، غير أنها تواجه تحدّيات عدّة من أجل تعزيز جاذبيّتها. لكنّ هذه العقبات لا تحجب الجهود الروسية الرامية إلى فرض نفسها كقوة ناعمة. فالمراكز الروسية للتعاون العلمي والثقافي في العالم توجد في أكثر من 60 بلداً، توفّر دروساً في اللغة الروسية، وتنظّم مناسبات ثقافية.

«دبلوماسية غاز»

يلاحِظ العديدُ من المعلّقين وجود «دبلوماسية غاز» جديدة «كسلاح ليِّن» بيد روسيا. وهذه الدبلوماسية هي في أساس إعادة رسم سياسات الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي وتحديدها.

سحر الموسيقا

تعتبر الثقافة الروسية بتنويعاتها الفنية والأدبية، عنصراً جاذباً لكثيرين على مستوى العالم الغربي، خصوصاً مُدمني الموسيقى الكلاسيكية، فما زال سحر الموسيقار الكبير ريمسكي كورساكوف (مثالاً لا حصراً) يلهب مشاعر الملايين بسمفونيته: «شهرزاد».

فن الباليه

يعتبر مسرح البولشوي، من أكبر المعالم المرتبطة بخصوصية فن الباليه وموسيقاها في العالم. وهذا الفن الراقص من أقدم وأكثر الفنون شعبية في روسيا. واستطاع الروس، ومنذ عقود طويلة، تسويقه في القارات الخمس، ولاسيما من خلال عروض فرقة البولشوي بلوحاتها الباهرة، وفي طليعتها «باليه بحيرة البجع» التي عشقها الأوروبيون والغربيون أكثر من عشق الروس لها.

نموذج تركيا

تبزغ في المنطقة نماذج أخرى مثل تركيا على سبيل المثال التي تقدم نموذجها الخاص في القوة الناعمة من خلال الفن وعلى سبيل المثال المسلسلات التركية المبلجة إلى العديد من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية. ومن خلال هذه المسلسلات حققت تركيا زيادة في إيراداتها من السياحة، كما سوقت للمكانة العالية للثقافة التركية في المنطقة.

Email