مدارات

التلاعب الخفي بالفكر البشري

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعيش اليوم في عصر لا خلاص لنا فيه من العلوم السلوكية، في زمن تسخَّر فيه نتائج علم النفس الاجتماعي واقتصاد السلوك لتحديد نوع الأخبار التي نقرأ عنها،والمنتجات التي نشتريها، والمجالات الفكرية والثقافية حيث نسكن، والشبكات الإنسانية الإنترنتيّة والواقعية التي أصبحنا نشكل جزءاً منها.

وأصبحت جوانب المجتمعات البشرية التي كانت تقودها سابقاً العادات والتقاليد، أو الأهواء والتلقائية، تميل بقوة أكبر لتشكل النتاج المقصود أو غير المقصود للقرارات المتخذة على أساس النظريات العلمية للفكر البشري ومصالحه.

ولا تتوسل التقنيات السلوكية للحكومات والمؤسسات الخاصة حسّ المنطق لدينا، ولا تسعى لإقناعنا بصورة واعية عن طريق المعطيات والدلائل. بل تغيّر التكتيكات سلوكياتنا عبر استمالة الدوافع اللاعقلانية لدينا، والمحفزات العاطفية والتحيزات اللاواعية. وإذا استطاع علماء النفس امتلاك الفهم الممهنج لتلك المحفزات اللاعقلانية فإنهم يحظون بقوة التأثير على أبسط جوانب حياتنا وأعظم سمات مجتمعاتنا.

ويعتبر كتاب مايكل لويس بعنوان «مشروع التعطيل»، الاحتفالية الأشهر على طريق المساعي الدائمة لفهم وتصحيح سلوك البشر. ويعكس الكتاب تجربة العالمين النفسيين دانييل كانمان وأموس تفيرسكي، اللذين وضعا حجر الأساس بعملهما للعلوم السلوكية الحديثة.

وكشفت النتائج التي توصلا إليها عن بوادر اقتراح إمكانية فهم اللاعقلانية البشرية بطريقة ممنهجة. وذكرا أنه حين يخطىء التفكير، فإنه يفعل على نحو يمكن التنبؤ به. وتوصلا بفضل نتائج الدراسات غير المتوقعة للقول: «بتنا نفهم اليوم معجزات التفكير الحدسي وعيوبه كذلك.»

وتشكل «نظرية المعرفة» أبرز اكتشافات كانمان وتفيرسكي بوصفها الأساس الأهم لنهج «التحيزات والحدس المهني» اللصيق بالعلوم السلوكية الجديدة. وقد وجد العالمان بالنظر إلى أساليب اتخاذ الناس لقرارات مبنية على الارتياب، أن سلوكهم ينقض نظرية النفعية القائلة بالإشباع. وأدركا أنهما ليس بصدد سلسلةٍ عشوائية من الأخطاء، بل إزاء عشرات «النقائض الممنهجة لبديهيات العقلانية في الاختيار بين المكاسب».

وتحيل تلك الأخطاء المتسقة اللاعقلانية البشرية أمراً قابلاً للتنبؤ. ويقدم لويس على الرغم من كشف عيوب التفكير، طرحاً إنقاذيا متناسقاً، ويشدد على أن المعرفة السيكولوجية الجديدة، إنما تتيح التعويض عن لاعقلانية البشر بطرقٍ قد تحسّن من رفاه البشرية. إلا أنه يغفل الحيّز الذي يشير إلى أن علماء السلوكيات قد طوروا إمكانية التلاعب بالحياة العاطفية للناس بطرق تحدد شكل الأفضليات والرغبات والقيم الأساسية.

وطوّر كانمان فكرةً تقول بأننا لا نصلح للحكم بأنفسنا على مصلحتنا الخاصة، وأن حدسنا غير مستقر ومتناقض.

وأكد في محاضرةٍ لكبار رجال الأعمال في وادي السيليكون، أن «التهيئة» بمعنى اختيار الأجواء المناسبة تشكل إحدى أهم مجالات البحث السيكولوجي، وهي تقنية تنطوي على منح الناس إشارات في اللاوعي تعمل على التأثير على أمزجتهم وسلوكياتهم. ويشدد على وجود ارتباطات متوقعة ومتسقة يمكن تسخيرها في هذا النوع من التهيئة، علماً أنه في ظل عدم إدراك الأشخاص للتأثير اللاواعي، فإن حرية المقاومة تغدو نظرية أكثر منها واقعية.

وعلى الرغم من أن أشكال الإقناع اللاعقلانية ليست بالأمر المستجد، غير أن عدداً من علماء النفس الاجتماعي ينسبون لكنمان وتفيرسكي عمق النظرية الأصلية المتعلقة بالفكر البشري، التي تكشف المنابع المنهجية اللاواعية للاعقلانية. وإن القول بتجذر علم النفس الاجتماعي والاقتصاد السلوكي في بحث أساسي متين يمنح نوعاً من المصادقة على علوم جديدة تشكل ركيزة ملايين المبادرات السلوكية المرعية اليوم في العالم.

ومع ذلك وجه النقاد سلسلةً من الاعتراضات على طروحات العالمين. فإذا رفضنا التمييز بين النظامين النفسيين المنفصلين فرضياً، وأولينا اهتماماً أكبر لما يمكن أو يستحيل تبريره عقلانياً، فسيثبت أكثر أن التغيير السلوكي المفروض علينا بطرق لاعقلانية لا تتسم بالإكراه وحسب، بل تقوّض قدرتنا على التفكير منطقياً وتحليلياً. ويبدو أن مصادر التأثير التي تصوغ السلوك الاجتماعي والأسواق والسياسات، تمعن في التخفي واللبس المنطقي.

استراتيجية  

فطن مسؤولو وادي السيليكون للقوى التجارية الكامنة في تقنيات كانمان، فأدرجوها في القطاع التكنولوجي. ولخص جون كيني المشهد بالقول: لا يمكن فهم نجاح منصات كأمازون وفيسبوك بمعزل عن فهم مبادئ الاقتصاد السلوكي الذي يمنح، مطرداً، الرؤية السلوكية المسيّرة للاستراتيجية الرقمية.

2011

قدم كانمان للقارىء في عام 2011 النموذج الجديد للعقل البشري في كتاب «التفكير السريع والبطيء»، حيث وصفه بعملية مترابطة قائمة على نظامين، النظام الأول يتسم بالسرعة والتلقائية ويتضمن الغرائز والمشاعر والمهارات الفطرية المشتركة مع الحيوانات، إضافةً إلى العلاقات والمهارات المكتسبة. أما النظام الثاني البطيء والمتأني، فيتيح تصحيح الأخطاء التي ارتكبها النظام الأول.

واستدعى كانمان المقارنات التي شبهته لابتكارات ديكارت وداروين وفرويد. لكن لطالما انتابت الفلاسفة هواجس حيال النظام الثنائي للدماغ. وبرزت عدة أوجه للانتقادات، لم يستجب إلا لواحدة منها، فردّ على الفكرة القائلة بعدم سهولة الفصل بين الحدس والوظائف العقلية الأخرى، بالقول إننا لا نملك إلا اختيار الاتكال على الحدس في تحليلنا المنطقي.

ورفض كانمان فكرة وجود مملكة للحدس غير قابلة للتقييم المنطقي، واعتبر أنه في حال تناقض التفكير الحدسي فلا بدّ من استدعاء المنطق للحسم. غير أنه أغفل في معرض الدفاع عن موقفه الوقوف على ما قصد به الفلاسفة ب «الحدس»، وأخفق بالتالي في شرح معنى ضرورة الحدس في عملية التفكير.

الحدسي الأول والمنطقي الثاني

يصف كانمان طرق تفكير النظام الأول بالسريعة والتلقائية والثاني بالبطيئة والمتمعنة.

أي أنه يحدد معالمها الظاهرية، من خلال وصف سرعة وسهولة تدفقها إلينا. إنه في الواقع حكم خاطف. وحين يصف الفلاسفة اعتمادنا على الحدس، فإنه لا تعنيهم ظاهرية الأحكام بذاتها، بقدر ما يهتمون بأسلوب التبرير. 

ويزعمون أنه لا بدّ من الاعتماد على هذا الحدس، الذي تقف عنده التبريرات المنطقية. ولا يمكن تبرير اعتقادنا بتلك القوانين بطرق لا تحفز طرح مزيد من الأسئلة، التي تسوّغ بداهتها استخدامنا لها، ولا يسعنا التفكير منطقياً بمعزلٍ عنها.

وبما أنها تشكل الأساس الضروري لأي تفكير عقلاني، فلا يمكن وصف الوظائف العقلية بالارتباط المباشر بالنظام الحدسي الأول ولا المنطقي الثاني.

 

المفكر هو الشخص الذي بمقدور عقله أن يتولى مراقبة نفسه.

ألبير كامو فيلسوف فرنسي جزائري

ضعف العقل أشبه بالميكروسكوب الذي يضخم توافه الأمور ويعجز عن استيعاب العظيم منها.

لورد تشسترفيلد أديب وسياسي بريطاني

لا بد للقلق أن يدفعنا للتحرك لا للإحباط، لا يوجد رجل حرّ لا يستطيع السيطرة على نفسه.

فيثاغورس فيلسوف وعالم رياضيات يوناني (570 - 495 ق.م)

العلوم السلوكية:

مصطلح يشتمل على المناهج العلمية المتبعة لاستكشاف وفهم سلوكيات الأحياء وتفاعلاتها مع عوالمها الطبيعية للوصول إلى حقائق علمية حول أسباب السلوك.

الاقتصاد السلوكي:

دراسة تعنى بتحليل القرارات الاقتصادية والمالية للأفراد والمؤسسات التي تقوم بوظائف اقتصادية بما في ذلك المستهلكون، المقترضون والمستثمرون وذلك عن طريق دراسة العوامل الاجتماعية والفكرية.

علم النفس الاجتماعي:

أحد أفرع علم النفس يدرس السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، كاستجابات لمثيرات اجتماعية، وهدفه بناء مجتمع أفضل قائم على فهم سلوك الفرد والجماعة.

Email