رئيس قفز فوق التاريخ وتجاوز مفردات العصر

سياسة ترامب الخارجية تفتقر إلى الواقعية

تصريحات ترامب تغازل ودَّ بوتين بسذاجةٍ خطرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا قال لكم أحدهم إن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب «واقعي» في مجال السياسة الخارجية، فلا تصدقوه. قد تكون للرجل غرائز واقعية فجة، إلا أن ذلك لا يجعل منه إلا رسولاً رهيباً للواقعية، في حين أن الواقعيين، وأنا منهم، يجب أن يشعروا بقلق عميق حيال انتخابه.

الواقعية مقرونة بالمعقولية، وليست دليلاً محدداً على ما يجب فعله في كل أزمة تقع. وهي معقولية متجذرة في الإدراك الناضج للمأساة، لكل الأمور التي قد تتعثر في عالم السياسة الخارجية، حيث إن الحذر ومعرفة التاريخ مترسخان في النهج الفكري للشخص الواقعي.

رجل العصر الرقمي

وقد اتسم جميع رؤساء أميركا السابقين للزمن الحديث بأنهم كانوا قراءً إلى حدٍّ ما دون أن يكونوا بالضرورة مفكرين. إلا أن ترامب ينتمي على ما يبدو إلى ما بعد عصر القراءة والكتابة، رجل يقفز مباشرةً إلى العصر الرقمي، حيث غياب الدقة وترحيل المضمون وتفشي الأكاذيب.

يقدس الواقعيون الحقيقة لأن الدرس الأبرز للتاريخ ينص على أن حقيقة الأوضاع غالباً ما لا تكون سارة. غير أن تصريحات ترامب على امتداد فترة حملته الانتخابية عكست مراراً وتكراراً تجاهلاً جوهرياً للوقائع.

ويدرك الواقعيون أن توازن القوى ليس الدواء الشافي، بيد أن الاحتفاظ بتوازن قوى مواتٍ مع الأعداء يصب عموماً في مصلحة الأمة. وقد أحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خللاً في توازن القوى امتدّ من قلب أوروبا إلى الشرق الأوسط، وهو أمر يتطلب منا التحرك بإلحاح لتعديله على الأقل لما فيه صالح تدعيم موقف أقوى في المفاوضات مع روسيا.

ويبدو أن ترامب غير ملمٍّ على الإطلاق بهذا الواقع، وأنه بدلاً من أن يكون واقعياً في هذا الإطار، يطالع العالم بتصريحات تغازل ودَّ بوتين بسذاجةٍ خطرة.

ويدرك أصحاب مذهب الواقعية أن القيم تتبع المصالح وليس العكس، ويعلمون من هذا المنطلق أن نظام التجارة الحرة في آسيا يمنحنا مكافآت أكبر في المنطقة مما يمنحنا المزيد من الحوافز لفرض قيمنا هناك. أضف إلى أن اعتماد نظام التجارة الحرة مع حلفائنا سيقف بوجه نفوذ الصين المتنامي، الذي يدّعي ترامب أنه يريد كبح جماحه دون أن يملك أي فكرة مسؤولة عن كيفية تحقيقه، لأنه ليس بواقعي.

ثورة في النظام العالمي

ترتبط الواقعية بالاعتدال، وتدرك قيمة الوضع الراهن في الوقت الذي لا يلحظ المثاليون إلا نقاط الضعف، وينتابهم بالتالي القلق حيال التغيير. يريد ترامب، بالمقابل إحداث ثورةٍ في النظام العالمي، بدءاً بإشعال فتيل الحروب التجارية، مروراً برفع حدة التوتر مع المكسيك، وصولاً لتقويض حلف «ناتو».

ولابدّ للواقعية، من منطلق ارتباطها بالمعقولية لا الاستراتيجية، أن تدمج مع نظرة تاريخية واضحة لموقع أميركا من العالم. ولا يعني ذلك بالضرورة تدخل الولايات المتحدة في كل مرة يحدث فيها انتهاك لحقوق الإنسان في مكان ما من العالم.

حيث إن ذلك لا يتسم بالواقعية. إلا أنه يعني حتمية التنبه للأمر والمشاركة حين تتيح عملانية الموقف في الاستجابة من منطلق واجبها توسيع حدود المجتمع المدني حول العالم. ويعتبر المثاليون مهووسين بالأمر خلافاً للواقعيين الذين يدركون أن المصلحة القومية تتقدم على العالمية، علماً بأنهم، أو النوع المحترم منهم على الأقل، يتبنون رؤية عالمية.

ويمضي التاريخ قدماً وتظل الولايات المتحدة الدولة الأكثر حظاً والأحسن موقعاً على الكرة الأرضية. وتترافق هذه الثروة مع مسؤوليات تتعدى حدود دولتنا. فلننظر فقط إلى حجم البحرية البالغ قوامها 300 سفينة حربية، وإلى موقع حاملة طائراتنا في أي وقت كان.

وترادف الواقعية هنا الاستفادة من هذه القوة لحماية حلفائنا دون أن نورث العالم حرباً، ولا تعني التخلي عنهم بما يؤدي لاندلاع الصراعات. ونأمل أن يصبح ترامب واقعياً حقيقياً، علماً أن الطريق أمامه لا يزال طويلاً جداً.

محركات

شهد العالم على مبدأ الواقعية منذ أيام المؤرخ الإغريقي المشهور توسيديديس صاحب كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث عرّف الطبيعة البشرية بوصفها خاضعة لثلاثة محركات أساسية، الخوف والمصلحة الشخصية والشرف.

وبما أن الشخص الواقعي يدرك ضرورة العمل بالتناغم مع قوى العناصر الأساسية، وليس بما يتناقض معها، فإنه يعلم أيضاً على سبيل المثال، أن النظام يتقدم على الحرية وتتفوق المصالح على القيم.

لم يعط ترامب أي مؤشر يوحي بأنه قد أولى تلك المسائل تفكيراً، ويبدو أنه لا يملك أدنى حسٍّ بالتاريخ، ويفتقر بالتالي للإدراك الناضج للمأساة.

Email