واشنطن تتقلب وسط استراتيجيات متناقضة

غرورالقيادة الأميركية في مواجهة تحديات خارجية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكن لأميركا التخلي عن العراق. فعلى مدى 23 عاماً وعلى امتداد أربعة عهود رئاسية، والطائرات الأميركية إما تشن حرباً على العراقيين، أو تقاتل في صفهم. وإذا صحّ توقع الرئيس الأميركي باراك أوباما حيال الصراع طويل الأمد مع «داعش»، فسرعان ما سيمتد هذا الصراع إلى خمس ولايات رئاسية وربع قرن من الزمن.

كيف يستمر حدوث تلك الأمور؟ كيف يمكن لمرشح اعتلى أرفع منصب في أميركا على خلفية إنهاء الحرب في العراق، أن يجد نفسه بعد ست سنوات واقفاً ليعلن عن تدخل عسكري آخر هناك؟ كيف يمكن لرئيس بدا أنه جعل أولوياته التركيز على آسيا، أن يعتمد على الجيش بصورة أقل، ويطرح سياسة خارجية أكثر تقييداً مُنيت بالخيبة مجدداً؟

الاستراتيجية والتناقضات

يعود الجزء الأكبر من السبب إلى أنه في حين تحدث الأميركيون عن فرض ضوابط على النفوذ الأميركي وتحديد المصالح العالمية على نطاق أضيق، فإنهم نادراً ما التزموا بذلك. ويقع بعض اللوم على عاتق أوباما، الذي سعى للتراجع عن استعمال القوة الأميركية لحلّ المشكلات الدولية.

يبدو في الواقع أن أوباما نفسه، الذي حاول طرح رؤية أكثر تواضعاً وواقعية لسياسة أميركا الخارجية، لا يستطيع النأي بنفسه بعيداً عن نزعة التميّز الأميركية. وللمزيد من التصديق على هذا الكلام، يجب النظر في الخطاب الرئاسي الأخير، الذي أعلن فيه عن استراتيجية أميركا لـ«إضعاف وهزيمة داعش».

من ناحية، قلل أوباما من تهديد «داعش» بالقول:« لم نكتشف بعد أي مخطط محدد يستهدف أميركا». وكانت استراتيجيته منطقية إلى حد بعيد ومضبوطة بشكل نسبي.

ستُشكّل أميركا أحد الأطراف الكثيرة التي تلعب دوراً في العراق، حيث ستعتمد على القوة الجوية من دون أي جنود على الأرض، وستعمل مع الحلفاء الإقليميين وتلجأ إلى بعض الأساليب التي تتعدى القصف الجوي. كل شيء يبدو جيداً إلى حد الآن، أليس كذلك؟

الاستناد إلى المبالغات

تبدأ الإشكالية في الجزء المتبقي من خطاب أوباما، الذي روج لاستراتيجيته في تدمير «داعش»، مستنداً إلى كمّ من المبالغات.

فإقدام أميركا على التصرف في العراق، بالنسبة لأوباما لا يكمن في التهديد الذي قد يشكله «داعش» يوماً على أميركا، ولا لأنه يهدد مصالح أساسية للولايات المتحدة في المنطقة، أو لأن «داعش» تنظيم عدمي الطابع، خبيث القوة، يسخر ردوداً عسكرية لتنفيذ أعماله المقيتة، بل لأن أميركا هي أميركا وحسب.

ومما جاء في خطاب أوباما: «القيادة الأميركية هي الثابت الوحيد في عالم من المتغيرات، فأميركا هي التي تمتلك القدرة والإرادة لحشد العالم ضد الإرهاب».

أميركا هي التي «عبأت العالم بوجه العدوان الروسي؛ وتستطيع المساعدة على احتواء تفشي إيبولا والشفاء منه؛ وساعدت في التخلص من الأسلحة الكيماوية المعلن عنها في سوريا؛ وتقدّم يد العون للمجتمعات المختلفة، ليس في محاربة الإرهاب وحسب، بل في الكفاح نحو مستقبل أكثر فرصاً وتسامحاً وأملاً ».

كل تلك مسؤوليات كبرى ملقاة على عاتق أميركا. لكن أوباما يقول: «نحن الأميركيين نرحب بمسؤولية القيادة. ونعمنا اللامتناهية تفرض علينا أعباءً دائمة». كما أن «أمن أميركا الخاص وسلامتها» يعتمدان على «استعدادها للقيام بكل ما يلزم للدفاع عن الأمة وصون القيم التي تمثلها».

لعله لا توجد طريقة للالتفاف على هذه المعضلة، والتناقضات في خطاب أوباما باتت جلية للشعب الأميركي وإدارته السياسية، الراغبة من جهة في أن تبقى أميركا الدولة الأقوى في العالم، والساعية من ناحية أخرى نحو مشاركة دول العالم في تحمل الأعباء الدولية.

عام 2008، حين كان أوباما يخوض معركته الرئاسية، أوضح أن هدفه لا يكمن فقط في إنهاء حرب العراق، بل في وضع حدّ للذهنية التي ورطت أميركا في الصراع الرهيب. بعد ست سنوات على الانتخاب، نجد أنه لا يزال هناك الكثير للقيام به، وهو يبدأ بقرار من سدة الرئاسة.

التباهي له ثمن

لا تشكل الإشارة إلى التناقضات الخطابية بالضرورة نقداً لسياسة أوباما. فالاستراتيجية للتعامل مع «داعش» ومقاربته للوضع الدموي في سوريا قد أظهرت تواضعاً وتحفظاً، وهاتان سمتان لا تحظيان، بالإضافة إلى حذر أوباما ورويته، بالتقدير بالنسبة للرئيس الذي يأتمر أكبر جيش في العالم بأوامره.

فأوباما وأسلافه من الرؤساء قد أوجدوا جواً يستحيل معه أن تشارك أميركا بقية العالم مسؤولية الحفاظ على الأمن والسلام العالميين.

لذا قد لا يملك أوباما من الخيارات إلا القليل، ولا يسعه إلا أن يتجاوب مع حسّ الكبرياء الوطني لشعبه، حيث لا تجدي الجدليات القائمة على الكثير من المصالح وقليل من الإيديولوجيا، نفعاً.

وفي النهاية، يتخذ القصف بالقذائف صفة أكثر شرعية إذا جاء على خلفية القيم بدلاً من المصالح. من الواضح أن التباهي لا يأتي مجاناً.

Email