سخريةٌ وغضب وحنين ومشاعر متباينة

مركبات الخرطوم العامة دفتر خواطر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُمنى ويُسرى تلتقط عيناك عبارات مرسومة على مركبات الخرطوم، تفصح ربما عن محتوى مقسّم وفق هوى كاتبها أو وجعه، تفوح من أكثرها روائحُ السياسة وآراء لم تجد متنفسّاً آخر، وأخرى تعكس ولهاً بشعار ديني أو تعصّب كروي من أناس يعتبرون الرياضة والهواء سواء، وبين هؤلاء وأولئك من يسطّر سخريته من الواقع حروفاً لم ترسمها ريشةٌ وطلاء قدر ما نقشها جرحٌ غائرٌ وغضبٌ مكتوم. تجتذب انتباهك كلمات تنضح بالسياسة والرياضة ومواريث شعبية واجتماعية وحكم وأغاني تراث، فيما يحمل الكثير منها أسماء قبائل ومناطق والطرفة أبرز الحاضرين، فيما انتقل الهوس حتى إلى أصحاب وسائل النقل الصغيرة «الركشات»، إذ بات جلهم يدونون ما يعكس حالة نفسية واجتماعية ماثلة.

«خلوها مستورة«

ولعل تأثير السياسة على واقع الناس جعلها الأكثر حظاً وحضوراً، فبعارة «خلوها مستورة» زيّن أحدهم مؤخّرة مركبته مسترجعة في الأذهان عبارة قالها مسؤول كبير منشق عن الحزب الحاكم في السودان حينما حوصر بشبهات الفساد فصارت مثلاً يمشي بين الناس، فيما دوّن آخر كلمة «الوثبة» ساخراً ربما من مبادرة الرئيس السوداني عمر البشير لإطلاق الحوار الوطني الذي لم ير النور، فيما لم ينس السودانيون «نيفاشا» المنتجع الأشهر الذي تمّ فيه توقيع اتفاق السلام مع الجنوب قبل نحو 10 سنوات.

حنين ماضٍ

ولا تخلو مركبات السودانيين من حنين جارف إلى الماضي تعكسه عبارة «أب عاج» اللقب الذي أطلق على الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري، ومن أراد الجدل سطّر على مركبته «الدعم السريع» الميليشيا التي تتبع لجهاز الأمن والتي لا تزال مثار خلاف وشقاق، فيما لم يجد إبراهيم بداً من تسطير عبارة «لا للسلطة ولا للجاه» على حافلته متحايلاً على السلطات في نقاط الشرطة هرباً من سيف المخالفات، فالكلمات إحدى شعارات حكومة البشير، ولم يقصد إبراهيم غير أن يصدّر إليهم شعوراً بأنّه من الأنصار وينجو مما يسميه «الفخ».

زعيم و«صفوة»

ويزاحم هوس الرياضة منافسيه على المركبات، فإنّ لم تجد عبارة «الزعيم» اللقب الذي يميّز فريق المريخ و«الصفوة» الوصف الذي تنادى به مناصروه، فحتماً ستجد «سيد البلد» في إشارة إلى فريق الهلال المنافس الأبرز، فيما لا تغيب أسماء أبرز اللاعبين عن المشهد «العجب» «البرنس» وغيرهم كثيرون.

تدفّق تعابير

ووفق ما يرى البروفيسور علي بلدو استشاري الصحة النفسية السوداني، فإن «الكثير من الناس يعانون صعوبات نفسية ويشعرون بالرغبة في التعبير عن ما يجيش في صدورهم وما يعتمل دواخلهم، ما يجعلهم يلجأون لكل وسائل التعبير المعروفة مثل اللفظ ولغة الجسد والكتابة بكل أشكالها الالكترونية والورقية وحتى على الجدران»، لافتاً إلى أنّ «فئة من الناس تحب مواصلة التعبير أو التشديد علي حالة نفسية أو ذهنية معينة وحملها معهم أينما حلّوا ورحلوا وأبلغ مثال على ذلك ظاهرة الكتابة في المركبات صغرت أو كبرت».

ضيق مواعين

ويشير بلدو إلى أنّ «من أهم الأسباب في تفشّي ظاهرة الكتابة علي المركبات ضيق مواعين التعبير المتاحة، وفقدان القدرة علي التأقلم والتكيف والتعايش مع الأوضاع ولعل أهمها الضغوط الاجتماعية والحياتية والاقتصادية الكثيفة ومثال على ذلك ما نقرأه على المركبات «جري الوحوش» أو «المعايش جبارة» وما شابه».

ويلفت بلدو إلى أنّ «بعض هذه الكتابات تعبر عن إخفاقات متعددة منها الأكاديمي والعاطفي وفي العمل ومنها علي سبيل المثال «سبع صنايع والحظ ضائع» او «حبيبنا خلانا»»، مبيّناً أنّ «الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى أمنيات وطموحات ورغبة في تحقيق أحلام بعيدة يعبر عنها أصحاب المركبات فمثلا صاحب ركشة كتب عبارة «نفسي أقطع الكوبري»، باعتبار الركشة ممنوعة في الخرطوم من عبور الكباري.

من أنت؟

ويضيف البروفيسور علي بلدو أنّ «الكتابة على المركبات ما هي إلّا انعكاس للحالة الذهنية والشعورية والوجدانية التي ضاقت بها مواعين التعبير في الحياة ووجدت في خلفيات المركبات براحات واسعة للتعبير، وأصبحت بلسماً يداوي القلوب ويشفي ما علق في النفوس، مردفاً على هذا النسق الخرطوم مقبلة على ألا تخلو مركباتها من الكتابة ومن هنا يمكن القول: «أرني ماذا تكتب على مركبتك أقل لك من أنت».

Email