الميليشيات حلّت مكان الجيش والمؤسسات

ليبيا من الاستبداد إلى اللادولة

مشهد ميليشيوي من ليبيا «الجديدة»إي بي إيه

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما شاهد الليبيون جيرانهم التونسيين ينتفضون، تملّكت لدى الكثيرين منهم الحماسة وخرجوا مدفوعين بقوة النموذج وعوامل أخرى داخلية وخارجية، إلى شوارع بنغازي مطالبين بالتغيير. في ذلك الوقت المفعم بآمال كبيرة دخل على سفر التاريخ الليبي بند جديد حمل مسمى «17 فبراير».

وسواء كانت ثورة أو انتفاضة أو هبّة، فإن الرياح لم تجر بما تشتهي سفينة الشعب، بل أخذت الأمور منحنى متدهوراً. النظام قمع المحتجين بعنف مفرط منح لبعض العناصر الداخلية الفرصة لحرف المسار باتجاه التدويل.

بعض الدول تدخّلت وفي ذهنها مساعدة الليبيين، لكن دولاً أخرى كانت لها أهداف ومطامع قديمة - جديدة عبّرت عنها على نحو سلبي. ولأن الداخل لم يكن موجّهاً من قيادة مركزية، أُخذت السفينة بالاتجاه الدولي ذي المصالح، الأمر الذي تكشّف على شكل تقاسم الكعكة فور سقوط نظام العقيد معمّر القذافي الذي مرت أمس الذكرى السنوية الثالثة لمقتلة في العشرين من أكتوبر 2011.

الحلم المتبدّد

ولعل ما قاله رئيس «المصالحة الليبية» عادل الفايدي في أحاديث إعلامية بالمناسبة يقدّم توصيفاً يلامس بعض أوجه الحالة. يقول الفايدي «كانت الثورة حلماً في عقولهم (الليبيين) للتخلص من سنوات عجاف ابتلعت كل شيء، ونهضة لم يكونوا يعلمون عنها شيئاً، وديمقراطية أمسك بخيوطها نظام حكم 42 عاماً، لتصبح مسرح عرائس خيوطه في يد الرئيس. الآن وبعد ثورة 17 فبراير، والإطاحة بمعمر القذافي، تعاني ليبيا صراعاً مسلّحاً غابت فيه الوحدة الوطنية».

وعلى العموم، فالرجل لا يذيع سراً حين يقول إن ليبيا الآن بلا جيش، لكنّه لم يضف أن ليبيا بلا دولة وبلا مؤسسات. ولا يستطيع المراقب والمتتبّع للأوضاع فيها أن يكذّب عينيه وأذنيه ويغلّب الأمنيات على الواقع، ولا سيما حين يتعلّق الأمر بمراقب عربي، إذ يدور الحديث عن بلد عربي تبعث أحواله على كثير من الألم وقليل من الأمل. فالأحوال المعيشية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في بلد كان على الدوام واحداً من أغنى الدول في العالم.

صحيح أن تردي الأحوال المعيشية أمر محتّم بعد أحداث جسام أحدثت تدميراً واسعاً وتخريباً في البنى التحتية والمجتمعية، وصحيح أن المراحل الانتقالية جزء من عملية التغيير الثوري، لكن لكي تمطر يجب أن تتكوّن الغيوم، وهذا ما لا مؤشّرات عليه.

الأمن والاستقرار

الوضع الاقتصادي والمعيشي في أي بلد مرتبط عضوياً بالأمن والاستقرار، وهذان العاملان يتسابقات في الغياب. وكما يقول الفايدي «الثورة عموماً يعقبها انهيار بمؤسسات الدولة، وعدم وجود دولة منظمة قادرة على تقديم خدمات للمواطن بشكل منتظم، كانت تلك المنظومة نتيجة حتمية لأي صراع في أي دولة .. لكن كون ليبيا ليست دولة صناعية، مع قلة مواردها أدى إلى تردّي الأوضاع».

هل هذا التشخيص يعد كافياً ومقنعاً؟. ثورات كثيرة حصلت في دول عديدة، لكنّها تعافت سريعاً، أو على الأقل بقيت بنية الدولة ولم تتعرّض للانهيار. الكثير من دول أميركا اللاتينية تقدّم الأمثلة على التغيير الأقل كلفة. هناك تلاشت الأنظمة الفاشية والعسكرتارية، وحلت مكانها بالإجمال أنظمة مدنية منتخبة.

بعد ثلاث سنوات على رحيل النظام في ليبيا يبدو حتى الآن أن البديل الوحيد هو الفوضى، ولا تلوح في المدى المنظور مؤشرات على خروج البلاد من النفق الميليشيوي المظلم إلى أفق الدولة، إلا إذا التفت غالبية الليبيين حول البرلمان المنتخب أخيراً، والحكومة المنبثقة عنه، وكذلك إذا ظهرت نواة عسكرية تعيد بناء جيش وطني يمسك بزمام الأمور وينهض بليبيا على أساس ودتها تراباً وشعباً.

غياب شروط الثورة

ما حدث في ليبيا، كما غيرها من بلدان «الربيع»، خرج عن المسار الذي تريده الشعوب، والسبب غياب، أو عدم نضوج، الشروط التي شكلت القاسم المشترك لكل الثورات الناجحة تاريخياً، وهي القيادة الثورية الصلبة والنزيهة، وغياب البرنامج البديل لبرامج الأنظمة المستبدة، ونتيجة لهذين الغيابين، غاب وسائل النضال العلمية وحل مكانها الفوضى والانفلات وركوب القوى الانتهازية صهوة التغيير وتسليم عنانه لقوى خارجية كانت بالأمس قوى استعمارية في المنطقة، وما زالت لم تخرج من ثوبها.

Email