واحة جزائرية حمراء فتنت وطوت الفنان الفرنسي ايتيان ديني

واحة جزائرية حمراء فتنت وطوت الفنان الفرنسي ايتيان ديني

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت إلى وقت قريب مزار الكثير من الأوروبيين، وقبلة السياح، الذين يأتونها للراحة والاستجمام والاستمتاع بمناظر النخيل ودعة الشمس، التي تطل من وراء جبل كردادة محملة بنسائم العشق والوله، الذي كان يرسله العشاق والشعراء في مدينة السحر والجمال..

بوسعادة، واحة النخيل الحمراء، تسحر كل من يزورها ولايزال الجزائريون وكثير ممن زار بوسعادة يحجز لصديقه أو عاشقته بطاقة بريدية تحمل سحر المكان وافانين الطبيعة الجميلة ،أما الذين وقعوا في حب هذه المدينة فهم كثر، ولن يكونوا أكثر من الفنان الفرنسي الشهير ايتيان ديني.

وقد يكون وكل الذين بنوا هذه المدينة الجبلية الجميلة الواقعة في بوابة الصحراء الجزائرية بولاية المسيلة التاريخية، التي ترعرع فيها العلماء والمفكرون، وشيدوا فيها نهضة لا تزال آثارها باقية حتى اليوم. ولا يزال الأبيض والأسود يحفظ لمدينة بوسعادة وهي التي تتوسد النخيل والجبل تلك المناظر البانورامية الممتعة الخلابة.

فبوسعادة واحدة من أقدم مدن الصحراء الجزائرية، تقع على بعد 250 كيلومترا إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، وهي من أجمل الواحات التي جلبت بسحرها وجمالها البدو الرحل منذ قرون ،وكانت منذ قديم الزمان محطة لاستراحة المسافرين والتجار المتنقلين بين مدن الصحراء يجلبون مختلف البضائع ، فيقضون فيها أياما ثم يمضون وهو يحملون أجمل الذكريات عن الواحة الحمراء فيغرون غيرهم من التجار باللجوء إليها في غدوهم ورواحهم. لكن جمالها لم يغر البدو فحسب بل كان مصدر إلهام للفنانين المستشرقين،وفي مقدمتهم الرسام إيتيان ديني، والكاتبان الفرنسيان غي موباسان وألفونس دودي.

وأطلق اسم بوسعادة على المدينة عندما كانت بلدة صغيرة، عالمان هما الشيخ تامر وسيدي سليمان اللذان اشتهرا بالعلم والمعرفة، وأرادا نشر علمهما فضربا في الصحراء يتنقلان بين مضارب سكانها وواحاتهم، حتى وصلا إلى واد وافر المياه تحف جانبيه نخيل وأشجار فمكثا هناك طويلا إلى أن مرت قافلة، وكانت فيها امرأة لها كلبة مدللة كانت لا تكف عن مناداتها «سعادة سعادة»، فأعجب الشيخان بهذا الاسم وأطلقا على الواحة اسم سعادة ، ومع مرور الزمن صارت بوسعادة.

وسرعان ما انطبعت المدينة بالطابع المعماري الإسلامي مع دخول المسلمين إليها في القرن السابع الهجري، وبقيت محافظة على هذا الطابع حتى أثناء وجود الاستعمار الفرنسي بالجزائر ،حيث سارت إليها القوات الفرنسية في حملة عسكرية عام 1843، ولم تتمكن من احتلالها بشكل نهائي إلا في عام 1849.

وكانت بوسعادة نقطة التقاء كثير من الأعراق ، فقد استقر فيها العرب، والأفارقة السود، والمزابيون وهم بربر يستوطنون الجنوب الجزائري، واليهود الذين تشهد على وجودهم مقبرتهم في المدينة والمعروفة إلى اليوم، واستوطنت في المدينة أيضا حسان أولاد نايل اللائي أطرى جمالهن ورقصهن المشهور الكاتب الفرنسي الكبير اندريه جيد، وسحرن الرسام إيتيان ديني الذي استوحى من رقصهن، وخروجهن إلى شرفات البيوت المبنية بالطوب الأحمر عشرات اللوحات الفنية.

وارتبطت مدينة بوسعادة بالفنان التشكيلي الفرنسي الأصل إيتيان ديني، الذي سحره جمال المنطقة حين زارها للمرة الأولى عام 1884، وعاش بين أهلها واختلط بهم فعرف عاداتهم وتقاليدهم ودينهم، فأسلم، وارتبط بصداقة متينة مع سليمان بن إبراهيم باعمر، وهو من المزابيين ( بربر الصحراء) القاطنين ببوسعادة.

وكان دينيه في بداياته مولعا برسم النساء البوسعاديات ومفاتنهن، لكنه بعد إسلامه غير أسلوبه الفني وموضوعاته، حيث اختفت النساء العاريات والفاتنات المرحات في لوحاته الأخيرة، ومن أشهر ما أبدع بعد إسلامه لوحة «مراقبة هلال رمضان» جسد فيها عادات أهل المنطقة، ورسم مجموعة من الأشخاص باللباس التقليدي ( القندورة والبرنوس والعمامة) وهم يقفون على تلة يتحرون بداية الشهر الفضيل. كما أصدر كتابا بعنوان « محمد»، وأهدى نسخته الأصلية للزاوية الدينية «الهامل» القريبة من مدينة بوسعادة، وغير اسمه الأول من إيتيان إلى ناصر الدين.

وتوفي دينيه بعيدا عن بوسعادة التي أغرم بجمالها، في 24 ديسمبر 1929 بفرنسا، وطلب في وصية أن تجرى له مراسم الدفن على الطريقة الإسلامية، ونفذت ذلك شقيقته جان، فأقيمت له صلاة الجنازة بالمسجد الكبير بباريس، وحمل جثمانه إلى بوسعادة حيث شيعه إلى مثواه الأخير حشد كبير من محبيه وشخصيات ونبلاء المدينة، ودفن داخل القبة التي بناها قبل أن يشد الرحال إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج، ولايزال قبره إلى اليوم ببوسعادة.

بدأ التفكير مبكرا في إنشاء متحف ببوسعادة يضم لوحات هذا الفنان، ففي عام 1930 فكرت شقيقته جان في فتح متحف لأعمال شقيقها بجناح في قصر العائلة الذي أصبح فيما بعد مقرا لبلدية « هيريسي» حيث ولد الفنان، وتحمست لهذه الفكرة «جمعية أصدقاء إيتيان ديني»، لكنها كانت ترى أن الأنسب أن يقام ذلك المتحف في الجزائر العاصمة.

ووجهت جان رسالة إلى أصدقاء الفنان لجمع لوحاته في متحف خاص به، وازداد عدد المحبين لفنه، وعملوا على إنشاء المتحف بالجزائر. واتصلوا بسليمان بن ابراهيم، الذي أشار إلى بناء المتحف ببوسعادة ،لكن جان أردات أن يكون ذلك في مكان أكثر شهرة، أي بالعاصمة، وبينت أهمية هذا المشروع ودوره في تحقيق مساعي التقريب بين الجزائريين والفرنسيين حيث كانت فرنسا وقتها تحتل الجزائر وتعتبرها مقاطعة تابعة لها، وأرسلت له أيضا نسخة من كتاب شقيقها المعنون «محمد»، فأمر الرئيس الفرنسي حاكم الجزائر آنذاك بتسهيل الإجراءات لإقامة المتحف. وكلف سلطات الاحتلال جان ألزار مدير متحف الباردو بالجزائر في ذلك الوقت بإقامة المتحف، لكنه احتج بأن القاعة التي خصصت لهذا المشروع بالقصبة الحي الشعبي الشهير بالجزائر العاصمة ـ لا تتسع للوحات الفنان.

ولما نالت الجزائر استقلالها في عام 1962 ،بدأ التفكير من جديد في بعث مشروع إنشاء المتحف في الجزائر،وطرحت الفكرة لأول مرة عام 1966 حينما أوفدت اليونسكو بعثة يرأسها بطرس بطرس غالي الذي صار أمينا عاما للأمم المتحدة في العقد الماضي، فرفع تقريرا تحدث فيه عن ضرورة جمع آثار إيتيان دينيه ،وفي عام 1969 قام الرئيس الجزائري هواري بومدين بزيارة إلى ولاية التيطري، التي تتبع لها مدينة بوسعادة وعقد هناك مجلسا للوزراء وتقرر تأسيس متحف ديني ببوسعادة.

الجزائر ـ مراد الطرابلسي

Email