دور المنظمات غير الحكومية في التنمية: بقلم- د. أماني قنديل*

ت + ت - الحجم الطبيعي

تكشف مراجعة الاعلان العالمي للحق في التنمية عن مكونات اساسية يتضمنها الاعلان يقع في قلبها المشاركة الشعبية والتوزيع العادل لمنافع التنمية. وهو ما يرتبط بشكل مباشر بالمنظمات غير الحكومية . ومصدر هذا الارتباط, ان المنظمات غير الحكومية اضحت آلية اساسية لتفعيل المشاركة الشعبية في التنمية, وهو ما ذهبت اليه مختلف الوثائق العالمية للامم المتحدة, واكد عليه الخطاب السياسي لحكومات العالم, خاصة الدول النامية. وعلى الجانب الآخر, فإن اعلان الحق في التنمية يرتب التزامات على الحكومات لتشجيع وتعزيز المشاركة وتوفير الحقوق الاساسية وهو ما يشير الى مسؤوليات اساسية تتحملها الحكومات (لتهيئة المناخ) لآليات المشاركة عامة والمنظمات غير الحكومية على وجه الخصوص. وتتمثل اهم الاسباب العملية في تصاعد وزن المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية بعد ان اخفقت غالبية تجارب وخبرات التنمية التي استندت على بناء علوي تمثل في ايديولوجية للتنمية تفرض من اعلى إلى اسفل وغابت عنها ـ الى حد كبير ــ المشاركة الشعبية الفاعلة وفي اطار هذا التوجه الجديد لتفعيل دور المشاركة من جانب المواطنين, برز اهتمام عالمي من جانب المؤسسات العالمية ومؤسسات التمويل, ومن جانب الخطاب السياسي للحكومات, للتأكيد على الدور الفاعل للمنظمات غير الحكومية, وحدث ذلك في سياق عالمي واقليمي يشهد تحولات اقتصادية وسياسية, وقد تمثلت اهم هذه التحولات في تفعيل دور القطاع الخاص والتحول نحو الخصخصة, الذي صاحب سياسات الاصلاح الاقتصادي واعادة الهيكلة الاقتصادية. وفي هذا الاطار, برزت المنظمات غير الحكومية كآلية للتحول الاقتصادي من جهة, وللتعامل مع الفئات المهمشة من جهة اخرى, ولكسر مركزية الدولة من جهة ثالثة, الى جانب ذلك, فقد صاحبت هذه التحولات الاقتصادية, تحولات سياسية تمثلت في الديمقراطية, واحترام الحقوق الاساسية للانسان ودعم المجتمع المدني وقد شهدت هذه التغيرات الاقتصادية والسياسية غالبية الدول النامية ودول اوروبا الشرقية بعد موجة انهيار النظم الشيوعية. في هذا السياق الذي يشهد تغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية, تزايد الوزن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمنظمات غير الحكومية وتشكلت رؤية Vision لهذه المنظمات باعتبارها آليات اساسية للاسهام في التنمية ولتفعيل المشاركة القاعدية ومن منظور قدراتها على الاستجابة المرنة لاحتياجات المجتمع. واذا كان ما سبق يمثل الاسباب العملية التي تدفعنا لدراسة دور المنظمات غير الحكومية, فإن هناك اسباباً اكاديمية تضفي على هذه الدراسة المزيد من الاهمية اولها عدم تبلور نظرية عامة تفسر وتوضح دور المنظمات غير الحكومية في التنمية هذا على الرغم مما سبق ذكره من اعتبارات عملية دفعت للاهتمام بهذه الظاهرة, ثانيها: ان النظريات والاقترابات السائدة عن المنظمات غير الحكومية, قد انطلقت من الغرب واستندت ــ كما سنرى فيما بعد ــ على افتراضين مهمين هما الديمقراطية وسيادة آليات السوق, ومن ثم فإن هناك قصوراً في الاعتماد على هذه النظريات, خاصة في سياق يشهد محاولات تنمية سياسية ويؤكد على المشاركة والمواطنية وتعبئة المواطنين لعملية التنمية, ثالث هذه الاسباب الاكاديمية يتمثل في حداثة الاهتمام العلمي بالمنظمات غير الحكومية في الدول النامية, فتاريخها الموثق في العالم العربي, على سبيل المثال يمتد الى الثمانينات فقط, وعلى المستوى العالمي, فهناك حداثة ايضا للمشروعات البحثية التي اهتمت ــ من منظور مقارن ـ بالدول النامية, ولعل ابرز هذه المشروعات المشروع الدولي المقارن لجامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة الامريكية, ومشروع المنظمة العالمية غير الحكومية Civicus اذن حداثة هذه الدراسات تتطلب وتدعو الباحثين من الدول النامية, للاسهام في الكشف عن تفسير لدور المنظمات غير الحكومية في التنمية ويضاف الى ما سبق, الاختلاف والجدل حول المصطلحات والمفاهيم الخاصة بهذه المنظمات, والتي سنأتي اليها بشيء من التفصيل فيما بعد. المفهوم والتصنيف ان استخدام تعبير المنظمات غير الحكومية Ngos وان كان هو الاكثر شيوعا في العالم ليس هو التعبير او المصطلح الوحيد الذي يعبر عن نفس الظاهرة, وهي مجموعة المنظمات التي تقع مابين الدولة والسوق, وذات سمات معينة. فهناك مصطلحات وتعبيرات اخرى في انحاء العالم, كما انه لا يوجد اتفاق في الادبيات حول مصطلح او تعبير واحد. فالعالم قد وصل بالفعل الى اتفاق حول قطاعين, اولهما هو قطاع الدولة, او كما يعبر عنه القطاع العام, وثانيهما قطاع السوق او ما يعبر عنه بالقطاع الخاص, ولكن القطاع الثالث الذي يتضمن تنظيمات ضخمة ومعقدة خارج نطاق السوق (غير هادفة للربح) وخارج نطاق الحكومة (مستقلة ذاتيا) مازلنا لم نصل بخصوصها الى اتفاق. وعلى الرغم من التطور الكبير في طرح النظريات في هذا المجال خاصة في العقد الاخير, فإن هناك اشكاليتين اساسيتين, تواجهان الباحث في هذا المجال, اولهما اشكالية التعريف بالمفهوم وثانيهما اشكالية التصنيف. فهناك تعدد واختلافات في المصطلحات التي تصف المنظمات غير الحكومية وهناك ايضا تعدد واختلافات في المصطلحات التي تصف القطاع الذي يضمها وكل منها يركز على بعد معين او سمة معينة او واقع لهذه المنظمات, فهناك الى جانب مصطلح القطاع الثالث Third Sector مصطلح القطاع التطوعي Voluntary Sector والذي يركز على احد اهم مدخلات القطاع وهو التطوع وينتقد المصطلح بأنه يغفل ان كثيرا من النشاط في هذه المنظمات يقوم به فريق من العاملين مدفوع الاجر. وهناك مصطلح القطاع المستقل Independent Sectot الذي يركز على الدور المهم الذي تلعبه منظمات هذا القطاع كقوة ثالثة خارج الحكومة والقطاع الخاص, ولكن في واقع الامر فإن هذه المنظمات غير مستقلة تماما, فهي تعتمد في تمويلها على الحكومة والهبات الخاصة والمصادر الاجنبية, وذلك الى جانب اعتماد بعضها على بيع السلع والخدمات (اذن تعتمد على السوق). ويوجد ايضا مصطلح القطاع المعفي من الضرائب والذي يعتمد على واقع معين لهذا القطاع وهو تمتعه باعفاءات ضريبية, ولكن المصطلح يغفل عن الهبات التي تجعله يتلقى دعما ضريبيا. وهناك مصطلح القطاع الخيري او القطاع الوقفي, ويركز على ما يتلقاه القطاع من دعم ومساعدات ومنح خاصة الا ان هذا لا يمثل المصدر الوحيد لتمويله. يوجد كذلك مصطلح الاقتصاد الاجتماعي: حيث يستخدم لوصف مدى واسع من المنظمات غير الحكومية في بعض دول الاتحاد الاوروبي, الا ان المصطلح يخفي وراءه نطاقا متنوعا من المنظمات يدخل بها التعاونيات وبنوك التأمين ومنظمات التسويق الزراعية. وهناك ايضا, مصطلح قطاع المنظمات غير الحكومية, وهو يستخدم لوصف القطاع في الدول النامية, الا انه يعود فقط على جزء من المنظمات التي تنخرط في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية, ويمكن ان نضيف الى ذلك مصطلح القطاع الاهلي والذي يسود في كثير من الدول العربية ليعبر عن المنظمات الاهلية, وهو مصطلح لا يلقى قبولا من بعض السوسيولوجيين لانه يتضمن علاقات ونمط انتاج قديما يأخذ بثنائية العائلة او القبيلة, والدولة ويتجاهل وجود المجتمع المدني. وبالرغم من ترويج ورواج مصطلح القطاع غير الربحي Nonprofit Sector وارتباطه بالواقع والقانون الامريكي الا انه لاقى انتشارا واسعا في السنوات الاخيرة, خاصة لانه مرتبط بمصدر رئيسي للادبيات في هذا المجال, وهذا المصطلح يؤكد على ان هذه المنظمات لا تسعى لتحقيق الربح, هذا رغم ان بعضها يحقق ارباحا (تمثل عائد بيع السلع والخدمات) , لكن المنظمة لا تخلق اساسا لتحقيق الربح, وهي ليست جزءا من السوق. يمثل ما سبق جولة مع المصطلحات التي تصف القطاع النشط خارج السوق وخارج الحكومة وفوضى المصطلحات هذه قائمة على مستوى العالم في دوله المتقدمة والنامية, وغير صحيح ارتباطها بالدول النامية فقط, مما شكل لدى البعض تحديا رئيسيا لدراسة القطاع ودفع البعض من الباحثين للمغالاة في التحدث عن ازمة مفهوم مرتبطة بالدول النامية. واذا كانت المصطلحات المتنوعة والمختلفة تشكل تحدي اول في الدراسات المقارنة للاسهام الاجتماعي والاقتصادي للقطاع الثالث, فإن التحدي الاخر هو ما تعلق بمجال وطبيعة هذه الكيانات وهو ما يدخل بنا في التعريفات. وهناك اربعة انماط من التعريفات: تعريف قانوني واقتصادي مالي وتعريف وظيفي, واخيرا تعريف هيكلي اجرائي. والملامح الاساسية لهذا التعريف الاخير تتلخص فيما يلي: 1 ــ انها منظمات تطوعية الى حد ما. 2 ــ لا توزع الارباح على مجلس الادارة او الاعضاء. 3 ــ لا تسعى الى الربح. 4 ــ لها ادارة ذاتية. 5 ــ لها هيكل رسمي منظم. 6 ــ خاصة الى حد كبير, فهي مستقلة عن الحكومة. 7 ــ هي سياسية بمعنى انها لا تخضع في انشطتها لمرشح سياسي او حزب سياسي ولكن لها ان تتبنى اهدافا سياسيا (الديمقراطية وحقوق الانسان). ان السمات السابقة تعكس التعريف الاصلي في اقترابه الوظيفي الاجرائي الذي اتفق حوله الباحثون من 12 دولة في العالم في المرحلة الاولى لمشروع جامعة جونز هوبكنز, ويلاحظ ان السمات السابقة قد تم اختزالها في نهاية المشروع وفي مرحلته الثانية, فتم التوسع في ادخال منظمات لها طبيعة سياسية خاصة وان بعض المنظمات غير الربحية في العالم تعمل لصالح وتحت رعاية احزاب سياسية (كما هو الحال في بعض منظمات المانيا والمجر). ولكن من الاهمية بمكان ان يأخذ هذا الاقتراب ــ الوظيفي الاجرائي ــ في اعتباره التعريف القانوني ايضا الذي يوسع او يضيق من المنظمات غير الربحية ضمن القطاع الثالث, فهو قد يتسع ليضم الجماعات المهنية وجماعات رجال الاعمال (قوانين دول الخليج مثلا فيما تعلق بالجمعيات الاهلية) او قد يتسع ليضم النوادي الاجتماعية والرياضية (حالة تونس مثلا), او قد يضيق القانون من هذه المنظمات ويستبعدها من تعريف الجمعيات الاهلية (حالة مصر التي لها قوانين خاصة للنوادي الرياضية والاجتماعية والجماعات المهنية, بل ان كل جماعة مهنية لها قانونها المستقل). الامر اذن يشوبه بعض التعقيد ويحتاج الى اكثر من اقتراب للتعريف والتجديد, يأخذ في اعتباره الواقع, وكذلك القدرات التفسيرية للتعريف وطبيعة العلاقات بين مكوناته. واخيرا وفي هذا السياق يجدر الاشارة الى اشكالية التصنيف بمعنى اساس تصنيف الوحدات, بحيث ان كل مجموعة وحدات متجانسة على اساس النشاط ينبغي تمييز دورها وعناصر اهتمامها المشترك وهنا ايضا نجد ان المقارنة الدولية تكشف عن ان كل بلد يتبع نظاما للتصنيف (خاصة في الدول التي تدخل القطاع ضمن حساباتها القومية). الا اننا لو اطلعنا على الخبرة الدولية المقارنة ــ لدول متقدمة ونامية ــ ضمن المشروع العالمي لجامعة جونز هوبكنز يمكننا الاستفادة من اساس ونظام تصنيف المنظمات حيث ان هناك احدى عشرة مجموعة للنشاط, كل منها يضم مجالات فرعية. يمكن ان نوجزها على النحو التالي: 1 ــ مجموعة الثقافة والترويح: وتشمل الثقافة والفنون والنوادي الرياضية والاجتماعية. 2 ــ مجموعة التعليم والبحث. 3 ــ مجموعة الصحة: وتشمل المستشفيات والتأهيل والخدمات الصحية التي يقدمها القطاع. 4 ــ مجموعة الخدمات الاجتماعية: والتي تتوجه الى الاسرة والاطفال والشباب والمعاقين والمساعدة الذاتية والاغاثة والطوارىء. 5 ــ مجموعة البىئة. 6 ــ مجموعة التنمية والاسكان. 7 ــ مجموعة القانون والسياسة والدفاع Advocacy. 8 ــ المجموعة الخيرية (او منظمات المساعدة الاجتماعية الخيرية التقليدية) 9 ــ انشطة دولية. 10 ــ الدين. 11 ــ المنظمات المهنية والاتحادات. والمشكلة التي يمكن ان تواجهنا في التصنيف هي تعدد انشطة الوحدة الواحدة او المنظمات الواحدة, وهي مشكلة مهمة في العالم العربي نتيجة غياب التخصص, فالمنظمة قد تقوم بنشاط عريض في مجال الصحة, وكذلك في مجال الخدمات الاجتماعية, كيف سنصنفها خاصة اذا كنا نقوم بدراسة مسحية ميدانية او اذا كنا نقوم باعداد قاعدة البيانات؟ الادبيات الغربية تعتمد في ذلك على ان هناك نشاطا رئيسيا واحدا, يعكس حجم انفاق المنظمة على هذا النشاط, والى جانبه تعتبر الانشطة الاخرى فرعية. ويمكن القول ان المنظمات غير الحكومية تعكس المصطلح الاكثر شيوعا عمليا وفي المحافل الدولية والتي تعبر عن مجموعة من المنظمات لا تصنف كمنظمات حكومية ولا سوق, فهي غير حكومية, تطوعية, لا تهدف الى الربح, مستقلة ذاتيا, لها هيكل رسمي منظم, ولا توزع الارباح على مجلس الادارة والاعضاء, وهي تهدف للنفع العام. المداخل والنظريات تطورت دراسة المنظمات غير الحكومية والقطاع الثالث في اطار عدة علوم اجتماعية, مثل الاقتصاد والسياسة والتاريخ والقانون والانثربولوجيا, فهذا المجال البحثي يتسم بكسر الحدود التقليدية بين العلوم الاجتماعية. وعلى هذا الاساس هناك المدخل التاريخي الديني, والذي انعكس على بعض النظريات باعتبار ان الظاهرة محل الدراسة لها عمق تاريخي طويل وارتبطت بالاديان قبل ان تأخذ الشكل المؤسسي المقنن. وهناك المدخل الاقتصادي وهو الاكثر هيمنة في الادبيات ويرتبط بالنظم الرأسمالية. ثم المدخل السياسي ويركز على سياسة الدولة وطبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والحكومة. إن المداخل الثلاثة السابقة, خاصة السياسي والاقتصادي التي تهتم بدور القطاع الثالث قد نمت وتطورت في اطار نشاط بحثي متصاعد في الجامعات ومراكز البحوث الغربية, ومن ثم فهي قائمة على افتراضات اساسية ترتبط بالمجتمعات الغربية الرأسمالية, اهمها توافر قواعد لعبة ديمقراطية او سيادة آليات السوق, وهو ما يفرض علينا المراجعة النقدية لهذه النظريات لنتبين مدى ملاءمتها للدول النامية. في هذا الاطار لا يمكننا الحديث عن نظرية للتنمية متكاملة, تفسر دور المنظمات غير الحكومية, ولكننا نلمح ملامح مدخل تنموي لدراسة الظاهرة. فقد مثل واقع الدول النامية, بأبعاده الثقافية, وابعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, نوعاً من التحدي للنظريات الغربية التي تفسر واقعاً يختلف عما يحدث في الدول النامية وفي دول شرق اوروبا, ومن ثم تحققت اجتهادات مختلفة توجه الاهتمام نحو دور المنظمات غير الحكومية في التنمية, تتمثل فيما يلي: ــ ممارسة الديمقراطية ــ توسيع المشاركة الشعبية ــ مواجهة الآثار السلبية لسياسات الاصلاح الاقتصادي ــ التعامل مع الفئات المهمشة اجتماعياً واقتصادياً ــ اجتذاب المواطن الى قلب عملية التنمية المستدامة دلالة المدخل التنموي هناك مجموعة من العناصر والعوامل التي تؤثر في صياغة الدور التنموي للمنظمات غير الحكومية, بعضها سياسي وبعضها اقتصادي وبعضها الآخر ثقافي واجتماعي, اول هذه العناصر المؤثرة يتمثل في طبيعة النظام السياسي, ومدى هامش الحريات والديمقراطية المتوافر للمجتمع المدني, وقد اصبح من المتفق علىه في الكتابات والتحليلات لدور المنظمات غير الحكومية, ان هذا العامل السياسي يحدد مبدئياً طبيعة دور هذه المنظمات, حجمها انشطتها, ومدى نموها. وثاني هذه العوامل يرتبط بالاول وهو يتمثل في التشريعات والقوانين, اذ انها تعكس بما تتضمنه من قيود درجة تحرير المنظمات غير الحكومية, والتي تفسر طبيعة النظام السياسي من جهة والعلاقة بين المجتمع المدني والدولة من جهة اخرى وتمتد هذه التشريعات الى حق تأسيس المنظمات غير الحكومية, وحقوق الدولة في الرقابة والاشراف عليها. وحقوق ممارسة النشاط واختبار مجال التخصص او النشاط, كما تمتد الى حق الدولة في حل او تصفية المنظمة. ومن العوامل التي تسهم ايضاً في صياغة ادوار واهداف المنظمات غير الحكومية ايدولوجية التنمية, والسياسات الاقتصادية المرتبطة بها ومدى توافر مشاركة شعبية في عملية التنمية. وهناك حجم ودور الطبقة المتوسطة, التي تضطلع بالادوار الاساسية في حركة المنظمات غير الحكومية والتي تتسم بالمبادرة لتأسيسها, وكلما اتسعت هذه الطبقة, وغذتها العوامل التعليمية والاعتبارات المهنية كلما تعاظم دور المنظمات غير الحكومية, يضاف الى ما سبق اعتبارات ثقافية, تتمثل في القيم السائدة والثقافة السائدة, ومدى ميلها الى التأكيد على المشاركة او السلبية على الجانب الآخر. واخيراً فان احد العوامل المؤثرة في صياغة ادوار المنظمات غير الحكومية في التنمية الدور الدولي الذي تلعبه مؤسسات التمويل العالمي, وما يرتبط بذلك من اتجاهات تدفق التمويل نحو دعم انشطة لها الاولوية. وبالاضافة الى العوامل سابقة الذكر, فانه بوجه عام يمكن القول ان الازمات الاساسية التي تشهدها الدول النامية, تؤثر على صياغة ادوار ومنطلقات المنظمات غير الحكومية. وهناك ازمات ثلاث مؤثرة. الاولى هي ازمة الشرعية. والثانية التي تشهدها الدول النامية هي ازمة الهوية والتي تشير الى خلل التنشئة الاجتماعية في القيام بوظيفة انتاج شعور لهوية الفرد وهوية الجماعة. اما الازمة الثالثة المؤثرة في ادوار المنظمات غير الحكومية في الدول النامية, فهي ازمة العقلانية العملية, والتي يستند عليها تنظيم الحياة والمجتمع في المجتمعات الرأسمالية, والتي ادى الاخذ بها في الدول النامية دون عمليات ضبط سياسي واجتماعي وثقافي, الى اخفاق وتعثر مشروعات التنمية, واسهم في ذلك غياب ديمقراطية عملية صنع القرار والتي تضبط توجهات العقلانية العملية. ان الازمات السابقة التي تشهدها الدول النامية, وكذلك اتجاه العناصر المؤثرة على ادوار المنظمات غير حكومية في التنمية نحو صياغة علاقة تكاملية أحيانا وتنافسية أو صدامية في أحيان أخرى, قد أدى كل ذلك إلى بروز قضايا أساسية تواجه المنظمات غير الحكومية, من أهمها النخبوية والقاعدية في المنظمات غير الحكومية, أي إلى أي حد تتسم هذه المنظمات بمشاركة القواعد Grass Roots في اطار صياغتها النخبوية. كذلك تثار قضية الثقافة المدنية والمشاركة, بمعنى إلى أي حد تشجع الثقافة المدنية على المشاركة, إلى جانب ذلك قضية الديمقراطية وإدارة الحكم Governance في المنظمات غير الحكومية, وأخيرا وليس أقلها أهمية قضية استقلالية المنظمات غير الحكومية في مواجهة الحكومات من ناحية, وفي مواجهة التمويل الأجنبي من ناحية أخرى (وتقاس الاستقلالية بحرية صياغة جدول الأعمال وصنع القرارات الأساسية للمنظمة). وما سبق يمثل التطور المؤسسي الذي ينتقل بالمنظمات غير الحكومية من معنى (الرعاية) إلى معنى (التنمية) وتعزيز القدرات والدفاع عن الحقوق والتمكين للجماعات المستهدفة, فالتصور المؤسسي يجعل دور المنظمات غير الحكومية مؤسسات تدافع عن مصالح الجماعات وتحميها وتجعلها أكثر تمكينا, وتصبح في اطار هذه المنظمات فاعلا اجتماعيا, أي قوة اقتصادية واجتماعية فاعلة مساهمة في التأثير على عملية التغير الاجتماعي. ومن ثم فإنه من منظور البعد المؤسسي فإن المنظمات غير الحكومية تعمل باتجاه مؤسسة المجتمع المدني ودعم العمل التطوعي والمبادرة. ومن المنظور المؤسسي أيضا, فإن المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية ينبغي أن تتبنى جملة من الأهداف بعيدة المدى ــ في اتجاه التغير الاجتماعي والتحول الديمقراطي ــ وأهداف قصيرة المدى المعنية بتقديم الخدمات, ويجب أن يكونا جنبا إلى جنب. البعد الثقافي والقيمي وأخيرا فإنه من الأهمية بمكان, الاشارة إلى البعد الثقافي والقيمي لدور المنظمات غير الحكومية في التنمية, وهو بعد كثيرا ما يتم اغفاله, بالرغم من انعكاساته على طبيعة دور هذه المنظمات ومدى فاعليتها. إن التأكيد على دور المنظمات غير الحكومية كفاعل اجتماعي يسهم في عملية مؤسسة المجتمع المدني, لا يمكن أن يتحقق في غياب قيم أساسية تؤكد عليها مواثيق الشرف الأخلاقية, من أهمها المشاركة والممارسة الديمقراطية, والمساءلة والمحاسبية والشفافية, وكلها تعبيرات ذاعت وانتشرت في العقد الأخير من القرن العشرين. ففي اطار عملية التحول الاجتماعي والديمقراطي في الدول النامية, تطالب مؤسسات المجتمع المدني بالديمقراطية, واللافت للاهتمام ان دراسات ميدانية عديدة في الدول النامية عامة وفي مصر خاصة, قد أبرزت قصور الممارسة الديمقراطية داخل المنظمات غير الحكومية, وهو ما يشير إلى تناقض بين المطالبة بالديمقراطية وبين الواقع الفعلي لهذه المنظمات. يشير ذلك إلى أهمية التزام المنظمات غير الحكومية بفكرة الشرعية الديمقراطية سواء على مستوى المجتمع ككل أو على مستوى العمل داخل المنظمات. هذا بالاضافة إلى الالتزام بفكرة المحاسبة العامة وفق نظم يتفق عليها, واعلاء قيمة الشفافية في عمل هذه المنظمات. إذن هناك شق يتعلق بالقواعد الأخلاقية التي تحكم المنظمات غير الحكومية, بالاضافة إلى شق آخر يؤكد على مبادئ التنمية البشرية. وفي هذا الاطار فقد طرحت لجنة متابعة المنظمات الأهلية العربية (الشبكة العربية للمنظمات الأهلية حاليا) مشروع ميثاق شرف أخلاقي تلتزم به المنظمات العربية غير الحكومية, نشير إلى ما تضمنه من التزام بمبادئ التنمية البشرية: 1 - ينبغي أن تركز التنمية في جهودها وتعطي الأسبقية لاشباع الحاجات وتحقيق الآمال لأفقر الناس وأكثرهم هامشية. وينبغي عليها أيضا أن تواجه المطالب الحالية لحقوق الإنسان ومشكلات البيئة الطبيعية وأن تنزع إلى حل المنازعات الاجتماعية بطريقة سلمية. 2 - التنمية هي عملية اجتماعية وثقافية وسياسية وليست محض انجازات اقتصادية. 3 - ينبغي أن توجه برامج التنمية جهودها لتدعيم مؤسسات المجتمع المدني وأن تعمل المنظمات غير الحكومية على الاسهام البارز في هذه العملية. 4 - التنمية والتي هي حق أساسي, ينبغي عليها أن تدفع في سبيل تحقيق حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية. 5 - ينبغي أن تركز التنمية على الناس سواء في وضع أهدافها, أو في توزيع عوائدها, وأن تسهم المنظمات غير الحكومية في ذلك إسهاما فعالا. 6 - ينبغي أن تساعد التنمية الفقراء والمقهورين والمهمشين على أن ينظموا أنفسهم لكي يحسنوا أحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 7 - ينبغي أن تشبع التنمية الحاجات الأساسية. 8 - ينبغي أن تتوجه التنمية لجذور أسباب عدم المساواة الشاملة وليس لأعراضها فقط. 9 - ينبغي أن تكون التنمية اقتصاديا وبيئيا مستدامة, وألا تؤثر على مستقبل الأجيال المقبلة. 10 - على التنمية أن تدفع في طريق العدل الاجتماعي من خلال التوزيع العادل للقوة والثروة والنفاذ إلى المورد. 11 - على التنمية أن تعكس اهتمامات ومنظورات خبرة النساء وأن تتيح لهن أن يحققن حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. 12 - على التنمية أن تتطلب وتسهل المشاركة الكاملة للأفراد والجماعات المهمشة, بغض النظر عن الجنس أو الدين أو العمر, وذلك في عملية صنع القرار الاقتصادي. يمثل ما سبق التزام المنظمات غير الحكومية بمبادئ التنمية البشرية, وهو ما مثل الجزء الأول من ميثاق الشرف الأخلاقي, الذي أعلنته وتبنته المنظمات العربية غير الحكومية في مؤتمرها عام 1997. الشق الثاني تضمن القواعد الأخلاقية التي تحكم عمل المنظمات غير الحكومية, والذي يؤكد على عدم السعي للربح, والمشاركة الفعالة للمواطنين, واستقلالية المنظمة, وتشجيع المبادرة والعطاء والإدارة الجيدة للحكم, والممارسة الديمقراطية, والشفافية والمحاسبة والمساءلة.. وغير ذلك من قواعد أخلاقية. إن المنظمات غير الحكومية في الدول النامية تواجه مجموعة من التحديات من أهمها تحقيق المؤسسية واعلاء الممارسة الديمقراطية والشفافية, ويرتبط بذلك احتياج الكثير منها إلى عملية بناء القدرات بما تتضمنه من تدريب على التطوير الإداري والبناء المؤسسي, وقواعد بيانات تسهل من عملها وبناء شبكاتها وكذلك بحوث تطور الواقع. كما تواجه تحديات أخرى تتمثل في تحقيق استقلاليتها, وتطوير (أجندة عمل قومية) مستقلة, ويرتبط بذلك توفير تمويل مستقل لها يعتمد بشكل أساسي على مصادر محلية. وتواجه أيضا هذه المنظمات اشكالية مشاركة الجماهير في تخطيط وتنفيذ التنمية, في اطار ثقافة دفعت إلى السلبية والمبالاة, وهي تواجه تحدي بناء العلاقات مع القطاع الخاص.. فهل تستطيع المنظمات غير الحكومية في القرن الحادي والعشرين تفعيل دورها في التنمية؟. المديرة التنفيذية للشبكة العربية للمنظمات الأهلية

Email