الكبد..الجندي المجهول!

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أثار «الكبد» عبر التاريخ إعجاب الكثير من الأدباء والشعراء والعلماء واهتمامهم بوظائفه المتعددة، وقدرته على التحمل ومواجهة الأمراض والاضطرابات العضوية المختلفة، ودفعهم ذلك إلى التعبير عن اهتمامهم بهذا العضو «الأكبر» و«الأنبل» و«الأكرم» بطرق وأساليب شتى ظهرت على شكل نصوص ودراسات وقصائد.

 في هذا السياق يصف الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الحائز جائزة نوبل لسنة 1971م الكبد في قصيدته الغنائية الشهيرة بالصديق المنظم والمتواضع، ويطلق عليه الكثير من الأوصاف الجميلة مثل: الماكينة اللامرئية والمجهول الصامت والعامل تحت الأنفاق،

فالكبد يعمل بجد وصمت ومن دون ضجيج (كما يفعل القلب)، ويقوم بوظائفه المختلفة بجد واجتهاد دائمين حتى آخر رمق، فهو ينقي ويمد ويفرق ويقسم ويضاعف ويشحم ويرفع ويجمع، كل ذلك بتواضع دائم، ومن دون تكلف أو عجب أو استعراض! وهو بذلك كالجندي المجهول، الذي يستميت ويستشهد في سبيل وطنه، لا يمل ولا يهدأ، ويظل يعمل حتى آخر نفس من خلاياه العاملة النشيطة والمستميتة ليساعد رفاقه من الأعضاء والأجهزة الأخرى في الجسم على الصمود حتى النهاية!

ارتبط اسم «الكبد» أيضاً بصفات القوة والصبر والقدرة على التحمل والمواجهة، كما ارتبط اسمه بالشجاعة والتكامل وألصقت بعض الثقافات كثقافتنا العربية بالكبد الكثير من الخصائص والقدرات، كما أدخلته في الكثير من الاستعارات والأوصاف والعبارات كــ«الكبد الحري» و«فلذة الكبد» و«أكبادنا تمشي على الأرض» وغيرها.

تتميز الأنسجة التي يتألف ويتشكل منها «الكبد» بوجود تآلف وتشابك بديعين بين وحدات منسجمة ومنظومات مختلفة من الأدوات الوظيفية والهندسية المتنوعة كالقنوات والفصيصات والجويبات والصفائح، التي تتوزع حولها وبينها الخلايا بأشكال هندسية شديدة الإتقان والدقة، وذلك بهدف إيجاد الظروف الملائمة والبيئة المناسبة لتسهيل وتوفير سبل تحقيق الوظائف المتعددة بشكل منتظم ومن دون توقف.

تتوزع وظائف الكبد على جبهات عدة وتنتظم في محاور مختلفة لتؤدي دورها بشكل متكامل ومتجانس من دون تضارب أو تصادم أو اختلاف فتسير كل منظومة حسب ما تقتضيه المصلحة العامة للجسم والخطط الموضوعة لتحقيق ذلك. من أهم المنظومات الوظيفية التي يعمل الكبد على تسهيلها وتحقيقها ليلاً ونهاراً من دون توقف أو استراحة هي المنظومات التالية:

- تخزين الطاقة.

- تنظيم نسبة السكر في الدم.

- حرق الدهون وتنظيم نسبة الكوليسترول في الدم.

- تخزين الحديد.

- تطهير الجسم من السموم والبكتيريا الضارة والأمونيا ومركبات الأدوية السامة.

- تصنيع البروتينات الضرورية للجسم كبروتين الزلال وبروتينات تخثر الدم.

- تصنيع مادة المرارة وإيصالها إلى الأمعاء لتسهيل عملية الهضم.

ينكب العلماء حالياً على دراسة وظائف «الكبد» المتعددة وتفكيك رموزها وإشاراتها وشبكاتها المعقدة ولمحاولة فهم العمليات الوظيفية لهذا المصنع العظيم، الذي يعمل من دون انقطاع والذي يقوم بنفس الوقت وعبر نفس الخلايا بالتخزين والتطهير والإفراز والتجميع والتنظيم وإيصال المواد المطلوبة ومنع المواد المرفوضة!

كما يدأب الباحثون على دراسة واستكشاف الجوانب الغامضة لدور الكبد في الكثير من العمليات المعقدة للأجهزة الأخرى كالجهاز الهضمي وجهاز القلب والأوعية الدموية وجهاز المناعة والجهاز العصبي والدماغ وغيرها.

ولقد واجه العلماء اعتلالات واضطرابات وأورام «الكبد» الخبيثة، واكتشفوا أنها من أصعب الأمراض علاجاً وتقييماً ومتابعة فهي بشكل عام تتميز بصعوبة التشخيص وبطول فترة العلاج وبفشل الأساليب العلاجية المختلفة وبندرة الوسائل الجراحية الفعالة، كما هو بارز في حال الأورام الخبيثة والتهابات الكبد الوبائي من نوع (س) وتشوهات الكبد الخلقية. تحير العلماء والباحثون في «الكبد» ووظائفه وتحيروا أيضاً باضطراباته والتهاباته وأورامه، فمثلما اكتشفوا الصعوبة والتعقيد في فهم أدواره الوظيفية المتعددة اكتشفوا الصعوبة والتعقيدات البالغة في أمراضه واضطراباته المختلفة و صعوبة مواجهتها وعلاجها والتخلص منها وكأنما أريد لهذا العضو الكريم أن يظل غريباً في الصحة والمرض، وأن يظل عصياً على الفهم في السراء والضراء!

* استشاري أمراض الأنسجة والخلايا ورئيس شعبة أمراض الأنسجة بمستشفى دبي

Email