تاريخ الوجع.. بكبسة زر

ت + ت - الحجم الطبيعي

«حين عدت من الموت، ونظرت إلى وجه أمي كان شاحباً، كما لم أره من قبل، كأنه وجه الأموات. كأن أمي قد ماتت، لكنها، قرب الباص، الذي تجمع حوله كل أهالي شفا عمرو، مثل يوم القيامة، كانت تريد أن تطمئن أنني ما زلت حية، أنني نجوت من المجزرة». من مات، من لم يمت؟ الصبية التي ركبت الباص 165 في تلك المدينة الفلسطينية الواقعة في دولة إسرائيل، في 4 أغسطس العام 2005، ظنت أنها ميتة حين تكومت تحت مقعد الباص.

فيما جندي إسرائيلي يطلق رصاصه على هزار ودينا تركي، وميشيل بحوث ونادر حايك. يقترب من رأس السائق، الذي لم يأكل قطعة الشوكولاتة بعد، ولم يشرب من تنكة الكولا، ويرديه من «مسافة صفر». ثم الى الرجل الآخر، فإلى الصبيتين العشرينيتين اللتين كانتا قبل ساعات تتغنجان على والدتهما، وهي تحاول إيقاظهما من أجل «الترويقة»، وهي لا تتذمر، بل تحب دلع البنات ذلك، الذي يجعلها تتأكد أنهما لا تزالان الطفلتين، مهما كبرتا، فتوصيهما أن «يطفئا الغسالة قبل الرحيل».

لا أعرف دينا وهزار شخصياً، لكنني رأيتهما قبل أيام في فيلم وثائقي كومة من العظام واللحم المتشقف، لا لشيء ولكن لكونهما كانتا على المقعد المجاور، جنباً إلى جنب مع جندي إسرائيلي، ألقى تحية الصباح على والدته، أكل وشرب ودخل الحمام، استقل الباص، ثم قرر أن يرتكب مجزرة ويسفك دماء ثمانية عشرة عربياً، شاء الاله أن ينقذ أربعة عشرة منهم، ويحتفظ بأرواح أربعة. بديعة شعبان لم تمت. هي فلسطينية ركبت الباص أيضاً، مع عدوها الذي شاءت الظروف أن تعيش معه وتتشارك وإياه هوية واحدة عليها ختم الدولة العبرية. تركب مع «جارك» الباص فيقرر قتلك.

 لكنها ظلت حية لكي تروي بعد مرور ست سنوات، مجدداً، تفاصيل الحادثة لصحافية شجاعة هي روان الضامن، تفرغت، بدعم من شبكة الجزيرة الإخبارية، في السنوات الأخيرة لتوثيق تلفزيوني للحكاية الفلسطينية الكاملة، لا «ما تيسر منها» فقط، بتاريخها وأسراره، بناسها وأهلها، في «الخارج» و«الداخل».

وعبر مشروعين تلفزيونيين متوالين، يستحقان لقب «الملحمة الوثائقية»، أولهما «النكبة» وثانيهما «أهل البلاد»، تمكنت الضامن، من توثيق هذه الروايات بحرفية تكرهها إسرائيل، إذ أنها جاءت بلغة تقنية وانسانية لطالما استخدمتها الدولة العبرية في رواية واختلاق وتضخيم قصصها على مدى التاريخ، مع فارق هو أن رواية أهل فلسطين هي الرواية الصادقة والأصلية، وان كانت المهملة والمستهجنة و«المشيطنة» في نظر العالم.

مثل بديعة مئات من الشخصيات التي تبحث عنهم الضامن، تجول من مدينة الى أخرى، من قرية الى أخرى، من رواق مكتبة مقفلة على أسرارها الى سراديب مخزن أفلام مجهول، لكي تستنطق وتسجل وتوثق الشهادات التي تضيع في زحمة الأخبار والأرقام، في غفلتنا وكسل اعلامنا، و«مللنا»، وتحويل حكاية الوجع والفقدان والرحيل الى مجرد رقم.

لكن معاناة من تهجر داخل فلسطين، ولم يرم به الى مخيمات الوحل في لبنان والاردن، وبيوت البرد في أصقاع العالم، غزيرة وغنية ومهمة كونها الرد الأبلغ على زيف إسرائيل «الديمقراطية متعددة الأعراق». نتذكرها، ونعيد اكتشافها اليوم، على «يوتيوب»، بنقر «أصحاب البلاد» وكبسة زر!

Email