إيمان عبد العاطي..رحلة مع المعاناة من المولد إلى الممات

ت + ت - الحجم الطبيعي

وضع الموت حداً لمعاناة المصرية إيمان عبد العاطي التي عرفت بأسمن امرأة في العالم حيث فاضت روحها إلى بارئها فجر يوم أمس الاثنين بمستشفى برجيل في أبو ظبي بعد أسبوعين تقريباً من الاحتفال بعيد ميلادها الـ 37 حيث شاءت إرادة الله جل وعلا أن تودع إيمان الملايين حول العالم ويسدل الستار على أطول رحلة علاج استمرت 37 سنة.  

لم تكن الفتاة المصرية إيمان أحمد عبد العاطي أحمد سليم التي عاشت 37 عاما حبيسة جسدها الذي قارب نصف الطن بحي سموحة في الإسكندرية مثل أقرانها تلهو وتجري وتمرح أمام منزلها أو في الحديقة المجاورة القريبة من شارع الفردوس الذي تقيم فيه بمنطقة عمارات أمن الدولة، لأن مرض السمنة المفرطة الذي لازمها منذ ولاتها كان دائما يوصد كل أبواب المرح والسعادة في وجهها.
جاءت إيمان إلى الدنيا في 9 سبتمبر عام 1981 بوزن 5 كليو جرامات ونصف وهو ضعف المعدل الطبيعي لوزن الجنين عند الولادة، ولم يكن واضحا في ذلك الحين أن إيمان ولدت وهي تعاني من خلل هرموني نادر في الغدة الدرقية، ولم تدرك أسرتها هذا الأمر إلا بعد مرور عدة سنوات عندما استشعرت أن وزن وحركة الطفلة غير طبيعيين إذ دائما ما تميل إلى الخمول والنوم الطويل المتكرر.
الغريب.. أن إيمان ذات الوجه الطفولي والملامح التي تشعرك بانها قريبة منك، لم تكن من اللواتي يأكلن بشراهة أو ممن يشتهين أطعمة معينة، أو ممن يهرولن وراء الأطعمة السريعة المشبّعة بالدهون، فلم تكن طبيعتها تهوى الطعام والشراب بالأساس، كان يكفيها لقيمات قليلة ولكن كانت تلك اللقيمات كفيلة بزيادة وزنها بصورة ملاحظة، ولذلك لم تكن عمليات تكميم المعدة أو قصها أو تحويل مسارها الوسيلة الأفضل للعلاج كما كان يعتقد الأطباء الذين أشرفوا على علاجها في مرحلة الطفولة.

في البداية حاول والداها عرضها على الأطباء وكل طبيب كان يدلي بدلوه فلم يتم تشخيص المرض النادر أو إدراكه إلا بعد سنوات طويلة قاربت ربع القرن تقريبا مكثتها إيمان في غرفتها منعزلة عن العالم لا تكاد تتحرك أو تحرك ساكنا.
عندما التحقت بالصف الأول في المدرسة الابتدائية القريبة من منزلها كانت أحيانا لا تعر اهتماما بنظرات وغمزات زميلاتها في الفصل، وفي أحيان أخرى كانت تلك النظرات الخبيثة تسبب لها جراحا غائرة وآلاما نفسية كبيرة وحالة من الإحباط المصحوبة بالحنق والألم،سرعان ما تزول مع النوم لتعاود من جديد في اليوم التالي مع نظرات المشفقين والساخرين.
بالكاد أكملت إيمان 5 سنوات في المدرسة الابتدائية، وتوقفت عن الدراسة لأن ساقيها أصبحت تنوء بحمل هذا الوزن الهائل من الشحوم، فلم تعد قادرة على الوصول إلى المدرسة ومتابعة الدراسة، إذ أن الخلل الهرموني الذي أصاب الغدد وصل إلى مرحلة خطيرة سلب منها القدرة  على التحكم في التمثيل الغذائي أو تصريف المياه من جسمها.

ظلت بضع سنوات في المنزل تمشي تارة وتحبو على ركبتيها تارة أخرى، وفي كل يوم كانت أسرتها تلاحظ أن جسمها يزيد وينتفخ باضطراد، وبمرور الوقت كانت معاناه إيمان تزيد بزيادة وزنها فلم تعد قادرة على المشي بعد أن تقوس ساقيها فكانت تتنقل بين جنبات المنزل حبوا على ركبتيها.

قرر والدها السفر بها إلى اليونان لإجراء عملية جراحية لقص المعدة، وبالفعل سافرت  وأجرت العملية، إلا أن هذه الجراحة فشلت ولم تنقص من وزن الفتاة جراما واحدا بل ضاعفت من معاناتها وألقت بها طريحة الفراش في غرفتها التي كانت تضيق بها شيئا فشيئا مع زيادة كتلة الجسم في كل يوم.
لم تستسلم الفتاة لسجن الجسد المتضخم، بل كانت تقاوم وتقاوم، كانت تتحداه بالزحف على ركبتيها، وكانت تقاومه بالتمارين الرياضية عبر القفز والدحرجة، تسخر منه مرة وتصرخ فيه بالصمت وبالجهر مرة أخرة، تستجمع قوتها لتعلن أمام جسدها بأنها سئمت منه وضاقت به ذرعا، وتطلب من الله أن يخفف عنها هذا الحمل الثقيل الذي ناءت بحمله وتحملت تبعاته من الأمراض المصاحبة له، ولكن في نهاية المطاف انتصر الجسد المترهل وطرحها أرضا.
كان جسد إيمان المتضخم دائما ما يقف حجر عثرة أمام أمل العلاج، لأن المستشفيات القريبة والبعيدة لم تكن تمتلك الإمكانات والأجهزة الطبية التي تستوعبها، وكانت أسرتها تستعين بالأطباء الصغار قليلي الخبرة  لفحصها داخل المنزل بسبب رفض الأطباء الكبار الذهاب إلى منزلها. 

استسلمت إيمان ورفعت الراية البيضاء أمام عنفوان جسدها المتسلط، وفي غرفتها التي كانت مملكتها طوال ربع قرن من الزمان تساوت في عينيها كل الصور ولم يعد شيئا جديدا يطرأ على حياتها إلا دخول الأطباء الذين كانوا يترددون عليها ليمنحوها القليل من الأمل وبعض المسكنات التي تعينها على النوم وتأخذ بيدها إلى عالم الأحلام حيث كل الأماني ممكنة تجرى وتقفز وتتمايل وترقص مثل الفراشة، إلى أن تفيق من أحلامها فتفتح عينيها لتجد سقف غرفتها الذي باتت تعرف كل تفاصيله ودقائقه فتدرك أنها عادت مرة أخرى إلى واقعها الساكن.
وبمرور الوقت اختلطت في عقل إيمان الأحلام والرؤى السعيدة بالواقع الكئيب فلم تعد تفرق بين ما هو حلم وما هو واقع، حتى أصبحت تتحدث إلى أناس معلقين في سقف الغرفة، أو إلى أشباح يتراءون لها عبر النافذة تنظر إليهم وتتحدث معهم وتشكو لهم همها، إلى تدخل عليها والدتها أو شقيقتها لتقطعا عليها خلوتها وتعود بها مرة أخرى إلى عالم الواقع الذي ترفضه وتحاول التخلص منه بشتى الطرق.  
ظلت إيمان تنتقل من غرفتها إلى غرفة المعيشة أو إلى الحمام أو المطبخ حبوا على ركبتيها فأصيبت بجرح وسالت منها الدم نتيجة الاحتكاك والضغط الهائل على مفصل الركبة أصيبت بمتلازمة الصدمة التسممية وهو مرض خطير لأنه يقوم بإنتاج البكتيريا العنقودية الذهبية والقيحية التي تسري مع مجرى الدم وقد تقتل المصاب به، فاضطرت أسرتها إلى الاستعانة بأحد الأطباء لإجراء عملية لها في غرفتها وتطهير الجروح.

وأخيرا عثرت أسرة إيمان على أحد المستشفيات الخاصة القريبة من مسكنها في الإسكندرية الذي وافق على وضعها في العناية المركزة لمدة خمسة عشر يوما مقابل 180 ألف جنية مصري لعلاج الجلطة الدماغية لتعود مرة أخرى إلى منزلها ليضاف إلى مأساتها مرضا جديدا بجانب السمنة والقلب والكبد والرئة والكلى والغدد.
قبل أكتوبر عام 2016 لم يكن أحد يعرف بالمأساة التي تعيشها إيمان إلا أسرتها وبعض جيرانها في الحي وبدأت قصة إيمان تنتشر عندما أرسل عدد من القراء إلى إحدى الصحف المصرية استغاثة  لإنقاذ إيمان، وعلاجها في مستشفى المعادي العسكري الذي يمتلك إمكانات خاصة لمثل حالة إيمان، ولكن لم تكن استجابتهم بالقدر المأمول، وبعد نشر القصة توالت إستغاثات أسرة إيمان بشتى الوسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الحوارية في الفضائيات والصحف المصرية  وذلك خلال شهري أكتوبر ونوفمبر عام 2016 لتنتشر قصتها بشكل متصاعد في مصر والعالم.
وعن طريق طبيب مصري "ضياء البحيري" يعمل في المملكة العربية السعودية ويعرف أسرة إيمان طلب الطبيب الهندي مفضل لاكداوالا المتخصص في علاج السمنة وكان قد شاهد حالة إيمان على مواقع التواصل الاجتماعي طلب من الطبيب المصري  التوسط لدى الأسرة لاستقدام المريضة وعلاجها في مستشفى "سيفي" في مدينة بومباي الهندية، ولما وافقت الأسرة سافر الطبيب مفضل بمرافقه فريق طبي إلى الإسكندرية وشاهد إيمان ابدى استعداده لعلاج المريضة وأكد للأسرة إمكانية علاجها وتخسيسها لتكون أقرب إلى الوزن الطبيعي بل واكثر من ذلك أعطى الأسرة الأمل في أن تعود إيمان على مصر وهي تمشي على قدميها.
شاهد العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الفضائيات والوكالات والصحف إحدى شركات الشحن وقوات الحماية المدنية في الإسكندرية وهي تكسر حائط غرفة إيمان بالطابق الرابع وتقوم بنقلها عبر رافعة يتلى منه السرير الخاص الذي ترقد عليه إيمان وهي تتطلع إلى الوجوه وكأنها خرجت من غرفتها  إلى عالم أخر غير الذي تعرفه وتتعامل معه منذ 25 سنة وهي فترة مكوثها في غرفتها، ونقلت إيمان إلى مطار برج العرب في الإسكندرية  لتقلها إلى مطار بومباي ومن ثم نقلها إلى مستشفى سيفي لتبدأ رحلة جديدة من العلاج.
قضت إيمان 84 يوما في مستشفى "سيفي" الهندي قبل أن تنتقل إلى مستشفى برجيل وخلال الخمسين يوما الأولى أخبار الحالة الصحية الإيجابية لإيمان تكاد لا تنقطع، وكانت صورها وأخبارها ضيفا يوميا في معظم الفضائيات والصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي، واستبشر العالم خيرا ببيانات مستشفى سيفي المصورة والتي كانت تعلن في كل مرة عن نجاح جديد لإنقاص وزن إيمان بدءا من 40 كيلو إلى أن وصل إلى إنقاص نصف وزنها إلى جانب  العمليات الناجحة لتكميم المعدة واستئصال المرارة  التي أجريت لإيمان خلال تلك الفترة.
وكانت المفاجأة  الصادمة وغير المتوقعة عندما أعلن الطبيب الهندي مفضل لاكداوالا أن إيمان تعاني من خلل جيني نادر يسمى "جين ليبر" لا علاج له في الوقت الحالي، وأشار إلى أن هذا الجين الذي تم كشفه في أكثر من 35 عينة مختبرية أجريت في المعامل الأميركية مسؤول عن توفير بروتين يسمى مستقبلات اللبتين، التي تشارك في تنظيم وزن الجسم، والتحكم في  الجوع والعطش والنوم والمزاج ودرجة حرارة الجسم، كما ينظم الإفراج عن العديد من الهرمونات التي لها وظائف في جميع أنحاء الجسم، إضافة إلى عيب وراثي وهو "اضطراب في الكلى والشبكية" وكلاهما يسبب زيادة الوزن أيضا.
وفي 25 أبريل الماضي قامت شيماء شقيقة إيمان بإعلان الحرب على الطبيب والمستشفى الهندي وسجلت فيديو ونشرته على موقعها على الفيس بوك اتهمت فيه المستشفى والطبيب صراحة بالخداع  والمتاجرة بمعاناة إيمان وقالت إن هدف الطبيب والمستشفى لم يكن إنسانيا كما أعلن سابقا وإنما كان لتحقيق دعاية وشهرة للمستشفى الهندي الذي بدأ مرضى السمنة يتهافتون عليه من كل مكان في العالم، وأضافت أن الحالة الصحية لشقيقتها تسير من سيء إلى أسوأ وأن كل ما تم الإعلان عنه من فقدان نصف وزن إيمان لم يكن إلا للدعاية ليس إلان وأن كل ما فعله الطبيب هو إعطائها مدرات للبول لتخليص الجسم من المياه المتراكمة في جسم إيمان، وناشدت المسؤولين في مصر بالتدخل الفوري لإنقاذ شقيقتها.
وبعد ساعات أكدت أنها تعرضت لتهديد بطردها من المستشفى مع شقيقتها لو استمرت في نشر المزيد من الأخبار المتعلقة بالمستشفى أو الفريق المعالج،  فيما دافع الطبيب الهندي لاكداوالا عن نفسه ونشر على صفحته على فيسبوك إنه سيستمر في بذل كل ما في وسعه لعلاج إيمان حتى بعد أن اتهمته شقيقتها بأنه "مخادع".
في هذه الأثناء قام الدكتور شامشير فاياليل الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لمجموعة "في بي إس" للرعاية الصحية المالكة لمستشفى "برجيل" في أبو ظبي بزيارة إيمان وعرض مساعدته  للمرة الثانية لعلاج إيمان في أبو ظبي، ولم يمض كثيرا  حيث وصلت إيمان إلى مستشفى برجيل مساء يوم الرابع من مايو ليتم وضعها  في العناية المركزة بصورة مؤقتة لتقييم حالتها الصحية.
ومكثت إيمان في مستشفى "برجيل" أربعة أشهر وعشرين يوما تلقت خلال رعاية طبية فائقة ووفر لها المستشفى كل الإمكانيات العلاجية والتأهيلية والنفسية اللازمة وكانت حالتها الصحية في تحسن مستمر، وفجأة أعلن مستشفى برجيل وفاة إيمان عبد العاطي والبدء في إجراءات نقل جثمانها إلى الإسكندرية مسقط رأسها ليواري الثرى وليسدل الستار على قصة إنسانية ربما لم يشهدها التاريخ قبل ذلك.

 

 

Email