جذور

«اليازرة» حرفة إرواء وسقاية تقليدية بأبعاد جمالية

خميس الخديم يشرح أهمية واستخدام الروايل والتراجيب

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادةً ما يتّجه الإنسان العامل إلى التّغنّي بصوته، إمّا فرداً أو مجموعة، للتّرويح عن نفسه، أو لقطع الرتابة في العمل أو لتشجيع النّفس والآخرين على المضيّ قدماً في العمل وأدائه على أكمل وجه.

وفي هذه الحالة، يندفع الإنسان العامل إلى تمضية وقت العمل في همّة ونشاط، ولا ينتهي الوقت إلا وقد أدّى ما عليه من واجب يدوي.

ومن الملاحظ أنّ أكثر الأداء الفنّي يُؤدّى من دون إيقاع أو أدوات، وإنّما أصوات تشدو بها الشّفاه والحناجر، وتصدح في الآفاق، فيتجاوب معها السّامعون لها وتطرب له آذانهم وقلوبهم، وتصفو له نفوسهم.

ويحمل الأداء الفنّيّ في طيّاته أمرين، الأوّل: خاصّ بالأشخاص العاملين أنفسهم في الحرفة، والثاني: خاصّ بالسامعين والمستعذبين لهذه الأصوات.

وحين يتمّ ذلك يعني أن التّجاوب مع مؤدّيي الأصوات تمكّنوا من تشجيع أنفسهم، وفي الوقت نفسه تمكّنوا من إطراب سامعيهم بل وينتقل هذا الصّوت إلى البهائم التي تُستَعمل في العمل، فتجد الإبل تحنّ بصوت الحداة، وتشنّف آذانها نحو الصّوت، وتجد أنّ الثيران التي تسمع صوت اليازرة وصوت اليازر، تعمل وكأنّها تتجاوب طرباً مع الصّوت.

ومن هنا تأتي أهمّيّة الأداء والصّوت المُغنَّى في تصفية الأجواء، وتنقية النّفوس. ولهذا فإنّ الصوت والأداء الفنّيّ له أهمّيّة في العمل الحِرفي. كما أنّ الكتابة حول الحرف والمِهَن التّقليديّة وأداءاتها الفنّيّة المختلفة بصورة عامّة، يؤدّي للمحافظة عليها وتدوين طرقها وأساليبها.

كلمات مغنّاة

وينتج عن مثل هذه الدراسات الجادّة، توضيح دور الأصوات في تشجيع العاملين على الاستمرار والمضيّ قدماً في العمل.

إضافة إلى تدوين الكلمات المُغنّاة ومعانيها ومضامينها وإشاراتها وصلتها بالعمل اليدويّ نفسه.. وحفْظ أحد نماذج الأداء الفنّيّ في مهنة اليازرة التي لم يتبقّ منها سوى الذّكريات.

وفي الوقت نفسه تسجيل معاناة الأسلاف العاملين في هذه المهنة، وكيف تسنّى لهم في الأيّام الخوالي من تنشيط مهنة الإرواء والسقاية.

كما تُعرّف الأجيال النّاشئة بأنماط عمل اليازرة في الإمارات وتّعرّفهم بكيفيّة أداء الصّوت، وفي الوقت نفسه، كيفيّة القيام بالعمل. ومثل هذه الدراسات، تبيّن مدى الارتباط بين عمل اليازرة وانتشار الرقعة الزّراعيّة.

ومثل هذه المشاريع البحثيّة تتطلّب مقابلة عدد من الأشخاص الذين عملوا في هذه المهنة، والتسجيل معهم في حالة الأداء ثم تفريغ الأشرطة الخاصّة بالمقابلات. ثم استخلاص النّتائج من خلال المقابلات. وهذا يتطلّب كتابة الألفاظ المُغنّاة في اليازرة، وتسجيل الصّوت مع الألفاظ.

وفعلاً، قمتُ بالتعاون مع زميلي، الباحث الجادّ الأستاذ عبدالله بن خلفان الهامور، بإجراء مقابلات مع عدد العاملين السابقين في اليازرة. ونتج عن ذلك معرفة كيفيّة التّفاعل بين العمل والصّوت.. ومدى تأثير الصّوت المُغنى على عمل الثور.

والتعرّف كذلك إلى أنّ الأداء الفنّيّ يساعد على تمضية الوقت، وهو نوع من الترفيه يقوم به عامل اليازرة للترفيه عن نفسه في أثناء العمل. واتضح من المقابلات، أنّ هناك أوقات مفضّلة للعمل باليازرة في اليوم والليلة.

وذكر لنا هؤلاء الأفاضل أجزاء اليازرة. وأنواع الأخشاب التي تصنّع منها اليازرة، وما هي أفضلها؟ ولِمَ؟ كما ذكر هؤلاء الأفاضل عدداً من الألفاظ الواصفة لأجزاء اليازرة، ولفتوا أنظارنا إلى مساحة الأراضي المزروعة التي تسقيها اليازرة.. ونوعيّة المزروعات التي كانت تُسقى باليازرة. وتعرّفنا إلى مدى انتشار السقي باليازرة قبل وصول ماكينات السّقي الحديثة التي قضت نهائياً على العمل باليازرة التي أصبحت بعد ذلك مجرّد ذكرى. ومن حسن الحظّ أنّنا سجّلنا مع عددٍ من الفضلاء في الفجيرة وخورفكّان ودبا والجير والغب وشمل ووادي القور. وهي مناطق اشتهرت بزراعتها على مرّ العصور والأزمان.

ومَن تبقّى من الذين كانوا يمارسون هذه المهنة قليل على مستوى الدولة، وقد قابلنا منهم: جمعة بن خلف بن بلال الزري، خميس بن عبدالله بن خميس الخديم، علي بن يوسف بن محمد بن شعرون، عبدالله بن خلفان بن عبدالله المزروعي، راشد بن عبيد بن ثول.

«االغرّاف»

تشمل اليازرة مصطلحات محدّدة تشير إلى أعمال وممارسة وأداء اليازرة، تعتمد على عددٍ من الأدوات والمسمّيات التقليدية، وأهمها: الثور والمرافس والمرايل والتافر والصدر والسواعد والطوي والمقيلة والمدوار والحو، والتراجيب (التراكيب)، وهي جذوع النخيل المعلّقة فوق البئر، وتشكل العمود الفقري لليازرة، ويتراوح ارتفاعها ما بين 5 و6 أمتار لسحب المياه من البئر إلى الحوض. وهذه الجذوع صلبة وقوية، وتتحمّل سحب الثور للدلو من البئر وهو مملوء بالماء.

و«الوي»، وهي الخشبة التي تُوضع على ظهر الثور لتثبيت الحبل عندما يبدأ الحيوان عمله في شد الدلو وسحبه من البئر، و«المنيور»، وهو البكرة التي تعلّق بين القوائم الخشبية في الأعلى، والتي تسهّل حركة جر الحبل. و«السعن» الذي يحفظ المياه، وهو فيما يشبه الأكياس البلاستيكية حديثاً، ويُصنّع من جلود الحيوانات. ويسمّى الحبل الذي يربط في القرب «دلو من الجلد» ويُعرف كذلك باسم «االغرّاف»، ويصل إلى قمة ارتفاع السارية في المنيور، ويُطلق عليه حبل «كمبار»، وهو من الحبال المعروفة والمشهورة بالقوة، ويسمى هذا الحبل بــ«الرشا».

وكان يربط بالثور حبل قويّ موصول طرفه الآخر بدلو يعتمد حجمه على كمّيّة المياه في البئر، لسحب المياه من الآبار، وتسمّى الحفرة الطوليّة المائلة قليلاً نحو الأسفل التي يتحرّك فيها الثور بــ«الخب»، ونظراً للمجهود الكبير الذي كانت تتطلّبه عملية جرّ الثور وسحب المياه وتفريغها في موضعها خارج البئر، عادة ما كان يصاحبها صوت فنّيّ ملحّن يؤدّيه اليازر تحفّزه إلى العمل، وتشنّف آذان الثور.

وعند إنشاء اليازرة، تثبّت أربعة جذوع طوال من أشجار النخيل، أو غيرها، توضع عليها بكرة لتسهل عملية سحب الثور للحبل، وفي آخر الحبل المجدول يثبت دلو أو اثنان، يملآن بالماء بعدما يرخي الثور الحبل نزولاً، ويرفعان مملوءين صعوداً.

مهارات

عادة ما يبدأ المزارعون عملهم في الريّ والسقاية بُعيد صلاة الفجر مباشرة حتى وقت الضحى، وتعاد الكرة بعد صلاة الظهر وحتى قُبيل المغرب.

ويعتمد العمل اليومي على مهارة اليازر في الحصول على الماء الكافي، وإتقانه في عمله، وتمكّنه من ريّ مزرعته أو بستانه في مدّة محددة، وبفضل الله تعالى ثم بفضل المجهود المتواصل الذي يبذله اليازر في عمله، تروى الأرض وتُسقى المزروعات وتخضرّ الأرض وتأتي بالخير العميم له ولأهله.

ويتعاون الأهالي في حفر الآبار وتتفاوت مدة الحفر بحسب مستوى وجود المياه تحت سطح الأرض، فكلما قربت قل عدد أيام الحفر من يومين إلى أربعة أيام، أما إذا بعدت المياه عن السطح فربما تستغرق مدة تزيد على العشرة أيام.

مسرحية

قضى دخول مضخّات المياه الحديثة نهائيّاً، على حرفة اليازرة. ويوحي عنوان مسرحيّة «اليازرة» لمحمد بن سعيد الضنحاني بالعمق التراثي الذي عناه الكاتب، وهو هنا يشير إلى ما كان لهذه الحرفة من مكانة في المجتمع المحلي.

«خب» و«فخّارة»

كان تصنيع أدوات اليازرة محلياً، إذ تصنع بشكل يدوي من الحبال ومستلزمات الثور والجلود الطبيعية وأغصان الأشجار.

ويتطلّب كلّ ذلك تدريب الثور واختياره بعناية. ومن الأمور التي يتطلّبها تدريب الثور هو تعرّفه إلى صاحبه، ثم السير به داخل المكان المخصّص.. وهو «الخب»، وتعويده عليه، ويتمّ ذلك خلال قرابة الشهرين ليكتسب مهارات الحركة وسحب الدلو، وليتعود على صوت صاحبه، وحركته معه..وكذا على تحمّل ثقل المياه. وطبعاً يجب أن يكون الثور قويّ البنية، مطيعاً لصاحبه، متحمّلاً للعمل الشاقّ. وكان الأهالي يطبخون لثورهم طعاماً خاصّاً يسمّى: «الفخّارة».

«النخل» و«الضاحية»

اعتاد الأهالي قبل حفر أي من الآبار ومن ثم تركيب اليازرة، اختيار المكان المناسب للبئر، وهذا يتلمّسه الأهالي من خلال خبرتهم بالأرض، ونموّ الحشائش والأشجار، وطبيعة التربة والأرض. ومن الجدير بالذِّكر أنّ الأهالي يطلقون على المزرعة: «النخل» ويعنون بها بساتين النّخيل تحديداً، إضافة إلى ما تحتويه المزرعة من فواكه موسميّة أخرى مثل المانغو. ويسمّون الأرض المخصّصة لزراعة الخضراوات، مثل: البصل والفندال وغيرها «الضاحية»، وكلاهما كانا يُسقيان باليازرة.

Email