«إجرام» قصيدة حاكم وشاعر مهموم بقضايا الناس

محمد بن راشد يحضّ على المروءة واحترام المقدّسات

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا أردت أيها القارئ المتذوق لجماليات اللغة العربية، والمتبحر في بيانها ومعانيها وبديعياتها، أن تعرف شيئاً عن جو هذه القصيدة الجديدة التي نشرها الشاعر الكبير في يوم عيد الفطر المبارك، فاعرفها من عنوانها: إجرام.

إن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يعرف كيف ينتقي عنواناً لقصيدته، فمثل هذه القصيدة المليئة بالمرارة والأسى والأسف تحتاج إلى عنوان لافت للنظر من بعيد، حتى ينفر سمع من يسمعها قبل أن يقرأها، لذلك فإنه اختصر لك المشوار وأعطاك كومضة سريعة من البداية ليشدك إلى قراءة القصيدة ولتؤمن بمسلّماتها وأنت لم تقرأها بعد.

ثم تأمل كيف يقارن الشاعر في دهشة بين الجاهلية والإسلام في عصوره الأولى، وبين الإسلام في القرن الخامس عشر من الهجرة الذي لم يبق فيه شيء من الإسلام إلا اسمه، أما رسمه الممارس منه فإنه أصبح محرفاً لدرجة أنه يمجّه المسلم قبل غير المسلم لولا أن هيُولاهُ محفوظ في كتاب الله. من أجل ذلك يأسف الشاعر على جاهلية مضت وكانت من جانب واحد مضيئة تتسم بالنخوة والشهامة والمروءة واحترام المقدسات، رغم أنها من جانب آخر كانت متهمة بالجهل والطيش والعنجهية في كثير من حالاتها.

ومن شدة إعجاب الإسلام بالجانب المضيء عند أهل الجاهلية، فإنه أقر تلك الخصال الكريمة وأثنى على أهلها رغم أنهم جاهليون وعبدة الأصنام، ولا أجمل في هذا المقام من قصة السفّانة بنت حاتم الطائي، وكانت من ربات الفصاحة والجمال.

يقول علي بن أبي طالب لما أتينا بسبايا طي كانت في النساء جارية حوراء العينين لعساء لمياء عيطاء شماء الأنف معتدلة القامة ردماء الكعبين خدلّجة الساقين، لفّاء الفخذين خميصة الخصر ضامرة الكشحين.

يقول علي، فلما رأيتها أعجبت بها فقلت لأطلبنها إلى رسول الله ليجعلها من فيئي، فلما تكلمتْ أنسيتُ جمالها لما سمعت من فصاحتها فقالت يا محمد: هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي. كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويُقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة، أنا بنت حاتم طي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دمعت عيناه: يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه.

ثم قال: خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق، ثم أسلمت السفانة وحسن إسلامها.

أقول: إن شاعرنا الكبير الشيخ محمد بن راشد يفكر في جريمة المجرم الذي أراد أن يفجر نفسه في بيت الله الحرام وهو مسلم وصائم حسب زعمه، ويتذكر في الوقت نفسه قصة رجل جاهلي مثل حاتم الذي لم يكن مسلماً ولكنه كان سفير الشهامة والمروءة والرحمة والأمن والسلام والإنسانية في ذلك المجتمع الجاهلي.

قل لي بربك أيهما أرحم، أذلك الإنسان الذي كان معترفاً بجاهليته وهو غير مسلم لكنه إنسان، أم إنسان هذا العصر (أقصد الحيوان) الذي يدعي الإسلام، لكنه لا يدين بأخلاق الإسلام؟ ولقد عبر شاعرنا عن الصورة الأولى بقوله:

كانوا العرب في الجاهلية والإسلام

                             يحمون بيت الله وناس تزوره

وكانوا على شرك وعبادة للأصنام

                         يا غير حب البيت وأمنه ضروره

يحمون حجاجه ويغدون خدام

                                ويعظمونه وآمنات طيوره

ثم يخبرنا عن الصنف الثاني الذي خرج علينا اليوم مدعياً الإسلام إلا أنه من جنود إبليس، ويستقي تعليماته منه فيعثو في الأرض فساداً باسم الدين وباسم الإنسانية وباسم العلم، لا يفرق بين أرض وأرض ولا إنسان وإنسان، ففي نظره كل الناس أشرار إلا من كان على ملته، وكل الأراضي مباحة له حتى لو كان المسجد الحرام. وإلا كيف يبيح لنفسه أن يعزم على قتل أناس أبرياء، وعلى أرض البلد الحرام، وفي المسجد الحرام وفي شهر رمضان، وفي ساعات ليلة القدر؟

في اعتقادي، أن إبليس يعتذر عن ارتكاب مثل هذه الجريمة في شهر الصيام، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشياطين تصفد في رمضان، ولكن هذا المجرم لم يتورع عن أن يقوم بالمهمة، لماذا؟ لأنه كما قال الشاعر:

وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى

                      بي الحال حتى صار إبليس من جندي

ويقول الشاعر الكبير وهو يصور لنا هول هذه الجريمة، التي كادت تزهق أرواح المئات من الأبرياء عند الكعبة:

مر الزمان وجو لنا أهل الأوهام

                            إمامهم إبليس هم طوع شوره

إيروّعون اللي إلبسوا ثياب الإحرام

                             عمّار دار بالصلاه إمعموره

بليّا حيا أو خوف تدميرهم دام

                     لين إوصلوا في الشر لأكبر خطوره

وإلا يجوز بشهر والناس صيّام

                            ليلة ختام الآي تنفح عطوره

يجي مخرّب لابس حزام الألغام

                       والناس حول البيت ف آتم صوره

يبغي يفجرهم ويحكم بالإعدام

                      على أبريا وبالغـــــــدر ناذر نذوره

إختار وأمثاله الأذيه والإجرام

                      وساروا بدرب فيه شوك ووعوره

وفي هذه الأبيات يكشف لنا الشاعر هوية هذا المجرم، فيقول: إنه ينتمي إلى تلك الفئة الضالة التي زين إبليس لها الإجرام وأقنعها بأنه قنطرة إلى الجنة وإلى معانقة حورياتها، وكأن الجنة ونعيمها نكاح وركوب فقط.

فمثل هذا المجرم عندما يرتكب جريمته يعُدّ تلك قربة تقربه إلى الله زلفى، وتمهد له طريقه إلى الجنة، وهو لا شك في أنه متشرب بحب الإجرام على أيدي أناس فقدوا إنسانيتهم وذممهم وفُرّغوا من كل القيم والمثل العليا، وإلا كيف استطاعوا أن يضللوا هؤلاء الشباب وهم في مقتبل حياتهم.

هؤلاء المدبرون المجرمون لا يرتاحون إلا إذا سبحوا في برك الدماء وتلطخت أيديهم وأرجلهم بدماء الأبرياء وفي أطهر الأماكن، ولا يبالون بعد ذلك إذا فقدوا حياتهم، ففي زعمهم أنهم موعودون بالجنة والجنة بريئة من قاتل نفسه وقاتل غيره.

وبعد أن صور لنا الشاعر سماحة أهل الجاهلية وهم أهل شرك ووثنية، وكيف كانوا يحملون في أنفسهم مكارم الأخلاق، وقف الشاعر متعجباً مستنكراً كيف يخرج إلينا في عصر العلم والتفجر المعرفي من صلب المسلمين من يتخلق بأخلاق أناس أشد جاهلية وأقل إنسانية منهم، يبيحون لأنفسهم تدمير الكون وقد جعل الله الإنسان خليفته في الأرض ليعمر هذا الكون.

وبعد ذلك، نرى الشاعر على يقين بأن مرتكبي مثل هذه الجرائم ومدبريها قرأوا القرآن وهم على علم بوعد رب العالمين ووعيده، لكنهم مع ذلك أعرضوا عن ذكر الله وانصرفوا إلى زرع الشر ونشر الخوف وبث الفساد، ولم يجدوا مكاناً لتنفيذ جرائمهم إلا مكة والمسجد الحرام الذي كان يعظم عند أهل الجاهلية، والله تعالى يقول في حق هذا البيت وأهله: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».

نعم.. والله تعالى أخبرنا في سورة الحج عن أعمال هؤلاء وعما أعدّ لهم من العقوبة فقال: «إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم».

يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز: الحسنات تتضاعف في مكة كما ورد في الحديث الصحيح، وذلك في ما يخص الصلاة في الحرمين أو في المسجد الأقصى، ولم يرد نص صريح في ما يخص سائر الأعمال، إلا أنه في الجملة يفهم منها مضاعفة الأجر، إذ إن هناك فرقاً بين مكة والطائف أو مكة وجدّة في الصيام والأذكار وما شابه ذلك.

أما السيئات... فلا دليل على أنها تتضاعف من جهة العدد، لكن تتضاعف من جهة الكيفية، فالسيئة في الحرم سيئة واحدة من حيث العدد، لكن سيئة الحرم وسيئة رمضان وسيئة عشر ذي الحجة أعظم في الإثم كمكان بدليل قوله تعالى: «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم».

وفي هذا المعنى يقول شاعرنا:

في أي شرع يجوز هذا يا ظلاّم

                         والله حمى بيته وعظم أموره

في سورة الحج الدلايل والأحكام

                      رد من الله لمن نوى في شعوره

يا كيف من خطط بتفكير وإلهام

                   من غير خوف وبان وهمه وزوره

فالويل ثم الويل إذن لمن ارتكب ويرتكب أو يدبر مثل هذه الجرائم التي تحرمها كل الأديان السماوية، وتجرّمها كل المنظمات الإنسانية، وفي أرض الحرم وفي رمضان شهر الصيام وفي العشر الأواخر خاصة.

وإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الحاكم والشاعر والأب والإنسان، يقدر للقيادة الرشيدة في المملكة العربية السعودية دورها في حفظ الأمن وسلامة الناس ولا سيما في المشاعر المقدسة، وكلنا بالطبع مع القيادة السعودية، إلا أن مسؤولية حفظ دماء الأبرياء، ومسؤولية حماية أفكار الشباب من التطرف الآثم مسؤولية مشتركة، ونحن في السعودية ودول الخليج والوطن العربي والعالم الإسلامي نتحمل نتيجة انجراف الشباب ووقوعهم في براثن الغدر والخداع.

فليقم كل منا بدوره، وإذا قمنا نحن قيادة وشعباً بواجبنا تجاه الشباب وربيناهم تربية واعية بعيدة عن المزاجية والأهواء الفاسدة وعبث الدخلاء، فإننا عندئذ نكون قد أدينا ما علينا وسلّمنا الوديعة إلى رب العالمين، والله متمّ نوره ولو كره المشركون والظالمون والمعتدون والضالون. أما إذا أهملناهم فلنتحمل مثل هذه النتائج الوخيمة. ولذلك قال شاعرنا:

يا أهل السياسة والثقافة والإعلام

                       اتجمعوا لاحق واحموه صورة

ولمن يقصر بيجي لك الزام

                             والله ضامن أنه إيتم نوره

ونلاحظ أن سموه ركز على السياسة والثقافة والإعلام لماذا؟ لأن من يخطط لمثل هذه الجرائم أخذ وقته في التفكير والتدبير بعيداً عن أعين الرقباء، وتغذى على الأوهام الإجرامية على مدار العام أو الأعوام مستعيناً بالإعلام المشوش أو المشوه، في حين أن الإعلام الصادق وقف عنه بعيداً فعاش هذا المجرم في الظل يتغذى على القاذورات ويشرب من المستنقعات، مستحلياً ذلك الجو الفاسد بعيداً عن أعين الرقباء، وعاش كما قال الشاعر:

عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى

                              فصادف قلبا خاليا فتمكنا

فيا وزارة التربية والثقافة والإعلام عُوا ووعّوا شبابكم، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة. وإنني أشكر صاحب السمو على أن أتحفنا بهذه القصيدة في يوم تتعطل فيه القرائح وتتوقف فيه الهمم إلا همة سموه المشغول بهموم الشعب ليلاً ونهاراً، وفي رمضان والعيد وسائر الشهور، وإنها لقصيدة تعبر عن عمق تأثره بمكان حدوث الإجرام وزمانه، ففي رمضان يذهب الناس للاعتمار وليس للتفجير والانفجار.

Email