بين قصور تريم.. مئذنة على نفقة شاعر ومكتبة بتراث عائلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حضرموت اليمن العربية وبالتحديد في مدينة تريم التي سميت في سالف الأزمان على اسم ملكها تريم بن حضرموت بن سبأ الأصغر، لا تزال قصورها الطينية تتسلق بجمال فارهٍ بين زوايا المدينة، والتي هي الآن من أبرز معالمها، لتفاخر العائلات التريَميّة بمعمارها المتفوق والمتجاوز في طوله، دون أن تغفل آدابها ومعرفتها، لكون العائلات هناك هي من بنت مدينتها والصدارة لها، لا من حيث التشييد والبناء فقط، بل كرست نفسها كجماعات وأفراد، للحفاظ على الإرث الأدبي والعلمي المحلي، وعلى ما كانت تملك هذه العائلات من مخطوطات نادرة في منازلها العتيقة. كتب التراث والعلوم النادرة التي لم تكن مبعثرة أو منسية، بل منظمة بين رفوف بيوت أهل المنطقة الطينية، والتي قاومت بفضلهم قرونًا في مكتبات دُورهم الخاصة، واستطاعوا في نهاية المطاف أن يجمعوا موروثهم بحب ويُخرجوا ما لديهم من كنوز قل نظيرها، ويضموها إلى مكتبة واحدة ورسمية هي مكتبة الأحقاف في مدينة تريم.

عائلات معرفية

العائلات التريمية لم يكن لديها إرث ملكي بقدر الإرث الثقافي والمعرفي، فهي تحمل وعيًا خالصًا تجاه مدينتها ومجدها المشترك، وبالأخص ما يكمن في إرثها المادي في بطون تلك الكتب. هذه العائلات العريقة واليقظة على الدوام والمدركة لدورها، سواء من مدينة تريم أو جوانبها أو أطرافها في الأقاليم الحضرمية، من أشهرها: آل الكاف وآل يحيى وآل عيدروس وآل الحداد وآل سهل وآل السقاف وآل بلفقيه.. وهؤلاء حافظوا جميعهم، جيلاً خلف جيل، على إرثهم الذي تجلى في تلك المخطوطات.

ولعل أبرز قراراتها الراسخة مؤخرًا هو جمعهم لكل تلك المخطوطات من مكتبات منازلهم لتصبح في مكتبة واحدة ومنظمة، رغم اعتزاز هذه العائلات بنسخها النادرة والمميزة التي ورثتها أبًا عن جد، لكون بعضها يعود إلى القرن الخامس الهجري، أي إلى أكثر من عشرة قرون، ناهيك عن النسخ النادرة التي كانت في حوزة بعضهم، مثل مخطوطة «القانون في الطب» لابن سينا التي نسخت قبل ثمانية قرون، مع حواشيها المنقولة من نسخة المؤلف، ومخطوطات أخرى كثيرة.

مخطوطات بلا نقط

وما يثير الاهتمام أن ثمة مخطوطة قديمة مهملة في تنقيطها بزغت من بين آلاف المخطوطات، وهي من النزر القليل والنفيس بين المخطوطات التي خرجت من بيوت عائلات مدينة تريم، ولاقت اهتمامًا لافتًا، لكون التنقيط في الحروف العربية مستحدثاً.. وذلك مع دخول الأعاجم الإسلام تيسيرًا للفهم والقراءة، وهي نسخة من مخطوطة «البيان في تفسير القرآن» في جزئه الخامس، ويعود المخطوط في تاريخه إلى ما قبل قرابة الألف عام، ما أعطاه أولوية في الاهتمام.

مكتبة مؤسساتية

في السبعينيات من القرن الفائت، تم تصوير معظم هذه المخطوطات من العائلات، ومن قبل بعثة المخطوطات في المنظمة العربية بالكويت، مع البعثة اليمنية السوفيتية آنذاك، وبدؤوا بالجمع، لوضعها في مكتبة الأحقاف في مدينة تريم. وبعد أن كانت هذه المكتبة لا تثير الاهتمام، أصبحت الآن من المؤسسات الفكرية الأكثر تميزًا في اليمن، لكونها تحمل تراثًا يحمي الأجيال القادمة، وباعتبارها ثروة الأسلاف، وفخراً للمدينة، ولكون المخطوطات التي بها هي عربية إسلامية، أصبحت وزارة الثقافة اليمنية تدير المكتبة بعد أن قامت بصيانتها، ونظرًا لما تحمله المكتبة من ميراث متفرد، فإنها أصبحت تقدم خدماتها للباحثين وطلبة الجامعات والمدارس الحكومية والخاصة والأجنبية، وكذا لكل من يريد التحقق من المخطوطات النادرة وتصويرها أو إجراء بحث حولها.

معايير دخول المكتبة

وحرصًا على ما بها من نوادر وكنوز فكرية وتاريخية، غدت المكتبة في نظر الأهالي طاهرة لما تحتوي من كتب ذات معايير مختلفة، ليأخذ القانون طريقه في شأن متطلبات حمايتها، إذ فرض خلع الحذاء أثناء دخولها، والمرجح في سبب ذلك، أن اسم المكتبة شبيه باسم سورة في القرآن الكريم، وبالإضافة إلى أن الأحقاف وادٍ من وديان حضرموت. أو ربما بفعل ما يتضمنه المكان من كتب فقه وتفسير.

لكن، ومقابل كل ذلك فإن المكتبة معاصرة وحديثة في خدماتها وتقسيماتها، كقسم المخطوطات الذي هو أهمها، لاحتوائه على 3241 مجلداً مخطوطاً. وعناوين لا حصر لها في الأقسام الأخرى مرتبة في خزائن زجاجية وخشبية، حسب الفنون والموضوعات والتخصصات، كالمؤلفات المتخصصة في الحديث والتراجم والتاريخ والأدب والتصوف والطب والمجاميع.. وإلى مواضيع أخرى، وبلا شك فإنها لم تهمل الأقسام الأخرى كالكمبيوتر والتصفح الإلكتروني وغيرهما.

مسجد المحضار

والشاهد أن عمائر تريم مختلفة في مشاهدها الجمالية، لتبدو للناظر لا نهاية لجمال مبانيها والمتشكلة في كثرة القصور والمساجد، ولعل ما يلفت النظر هي مئذنة مسجد المحضار نوعاً ما عن كل مآذن مساجدها الأخرى رغم وجود الأقدم منها، فمئذنة المحضار مبنية منذ قرن فقط، بنيت وكأنها بيت فوق بيت بنوافذ طولية رقيقة..لتصبح أطول مئذنة طينية في العالم، وبطولها الذي يصل الـى 175 قدماً، لكن الأجمل أنها مئذنة صممت على نفقة شاعر المدينة آنذاك وأديبها وفقيهها، الرحالة أبوبكر بن شهاب، وهو من السلالات الهاشمية المعروفة في حضرموت، أنفق ماله لبناء هذه المئذنة البديعة في ملمحها لتصبح قريبة من روحه الشاعرة.

تريم

مدينة تريم الغنية بما تحتضنه من مساجد أثرية ومنازل بمكتبات تراثية ومجالس عربية، اختيرت عام 2010م من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) عاصمة الثقافة الإسلامية. وكما يقول ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، إن تريم سمي على اسم الملك تريم بن حضرموت بن سبأ الأصغر، وكانت عاصمة لملوك مملكة كندة، كما كانت عاصمة سياسية في القرن السادس عشر بعد أن استولى عليها حاكم الدولة الكثيرية وحاصرها. كما اشتهرت بقصورها الأنيقة والعالية رغم بنائها الطيني، وقاومت الكثير لتبقى شاخصة شامخة، رغم أن عدد سكانها الآن لا يتعدى الـ 110 آلاف نسمة.

قصر «الرناد» المتشعب في طينه

قصرٌ طينيٌ ضخمٌ بستة طوابق، وكأنه مدينة بحد ذاتها، داخل مدينة. واشتهر القصر بحجمه الهائل، ورغم أنه مبني قبل الإسلام، ظل أهل تريم القدماء مستمرين في زخرفته وترميمه طوال القرون الفائتة، وخلال تعاقب الملوك والحكومات والملاك عليه، حبًا وعناية على الدوام، لكونه كان مركزًا للحكم المحلي في المدينة باستمرار. ومن يدخله كأنه رأى المدينة بأكملها. أما مؤخرًا وكبقية أغلب القصور التاريخية، قامت وزارة الثقافة بترميمه عام 2010م لصبح معلمًا ثقافيًا، فمهما مر عليه، يبقى إرثًا حضاريًا، لا بد من إبرازه.

قصر «عشة» الكامل في تواضعه

بنى الكاف هذا القصر لأن ثمة بئراً مائية في تلك الأرض الزراعية ليقيم عليها القصر، فارتفع القصر كاملًا في جماله ومعماره المميز بين المزروعات، لكن المالك والباني والمشهور بتواضع شخصيته السيد عمر بن شيخ الكاف أراد تصغير كل ما يقوم به، ليسمى قصره «عشة» على عش الطير. القصر ليس أثريًا، فهو بني عام 1920م لكن المهندسين آنذاك برعوا في بنائه، بجلبهم كماليات القصر من الهند وسنغافورة، كالأبواب والنوافذ الزجاجية، بينما أضاف البناؤون المبدعون في تريم على القصر، تلك الألوان الكثيفة من الداخل، ليبدو بذلك مختلفًا رغم أنه بناء طيني.

قصر « القبة» التريمي

قصر القبة اسم يتكرر في العاصمة الأردنية عمّان، والذي يعود في بنائه التاريخي إلى العصر الأموي، وهو إلى الآن يستقبل زواره. وهناك قصر القبة الخضراء في بغداد الذي بناه الخليفة المنصور في العهد العباسي. أما هنا في تريم، فأتحدث عن قصر القبة الذي يقع بين مزارع مدينة تريم، والذي بناه الشيخ الكاف بهدف أن يكون متنزهاً ومخصصًا للاستراحة في تلك الفترة، مما أضفى على القصر منظرًا بديعًا بين الزرع، فكان قبلة للسياح آنذاك، فقد كانت بركة السباحة التي بنيت قبل ثمانين عامًا في هذا القصر الأكبر في مدينة تريم.

سلالة آل الكاف

كل العائلات التريمية ساهمت في شهرة ونهضة المدينة، لكنني وبعد بحث وجدت أن لأسرة الكاف الدور الرئيسي والأهم في جمال مدينة تريم، بفضل مساهماتها المعمارية والجمالية، من خلال تشييدها القصور المميزة، أو من خلال خدمة الدين ببنائها المساجد فريدة الشكل، فكما يبدو لي أن هناك ملمحاً ابداعياً في روح العائلة ليصبح فن المعمار عنوانًا للمدينة، هذا بالإضافة إلى دورها التثقيفي المتجسد في احتواء قصور أفرادها على مكتبات بجانب مكتبات العائلات الأخرى، وفي المكتبات تلك مخطوطات نادرة قاومت قرونًا، وساعدت على استمرار هذا الإرث، لتصبح مدينة تريم مشعة على الدوام.. وليصبح التقدير للعائلة مستمرًا من قبل سكان المدينة لإضافاتها المتميزة، هذا ولآل الكاف مساجد كبرى وأخرى قاموا ببنائها خارج اليمن، كالمدن السنغافورية.

وبعيدًا عن البناء، فإن لآل الكاف الدور الفعال في إنشاء جمعية الحق التي كانت تقوم بتنظيم أمور الأسرة، وذلك بتعيينها أفراد الأسرة المسؤولين وأعيانها بالانتخاب وعن طريق لجنة منتخبة: بالاقتراع السري، بهدف كبح جماح الفوضى التي من الممكن أن تكون يومًا، وللمزيد من التنظيم صكت العائلة أيام السلطنة الكثيرية نقودها في حضرموت، لتصبح لها عملتها النقدية التي سميت بعملة «الكاف».

1972

في هذا العام أعلن عن افتتاح مكتبة الأحقاف في تريم، والتي تحتوي على مخطوطات مكتبات العائلات في تريم وخارجها، لتجمع كلها في المكتبة.

2894

مساحة مدينة تريم 2894 كيلومتراً مربعاً، وتقع بالقرب من وادي حضرموت الكبير، ومن أهم معالمها المساجد والقصور القديمة الفاخرة، ومكتبتها الأثرية «الأحقاف».

1914

صمم المئذنة في هذا العام المعماري المتميز عوض سلمان عفيف التريمي، في فناء مكشوف باتجاه القبلة، لتصبح أطول مئذنة طينية مربعة في العالم.

Email