برقيات

تكاملية المشهد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في البداية مما لا جدال فيه، أن تاريخ الفن الإنساني ينطوي على مفهوم الما بعد، والما قبل، كما توجد هناك مسافة إجرائية بين القديم والجديد، لكن الجديد ينبثق من أحشاء القديم، وليس له أن يغادر القديم بالمطلق.

وباعتبار أن التطور في الفن هو تطور متدرج، من هنا نستطيع الإمساك بالحداثة بوصفها مفهوماً ما بعدياً لا يلغي ما قبله، وهنا تجدر الإشارة إلى العلاقة بين عموم المدارس الواقعية والتجريدية، لنكتشف من بعدها أن كامل المدارس الواقعية، حملت منذ البداية في طياتها أبعاداً تجريدية.

والدليل على ذلك أن اللوحة الكلاسيكية والمرسومة على قماش أو ورق، في إطار البعدين «العرض والطول» تنطوي في مساحتها على بعد ثالث افتراضي، وهو ما يسمى بالمنظور، فالمنظور شكل من أشكال الوهم أو التجريد.

ومن هنا لا نستطيع التحدث عن عامل واقعي بالمطلق، وبالتالي ينبثق التجريد من قلب الأعمال الواقعية، ولنا أن نتعامل بالتفكيك البصري، الذي باشر فيه الفنان الإسباني «بابلو بيكاسو» رائد الحركة التكعيبية، فما قام به يتلخص بتفكيك البنية الهندسية إلى عناصرها الأولى ليلج من بعدها إلى عالم التجريد بطريقة صورية.

ومن ثم جاءت المدارس الرمزية لتباشر نوعاً فريداً، من التفكيك للبنية المنظورة والمبصورة، ومن هنا نستنتج أن المسار الطبيعي هو التطور من جهة والتجريب من جهة أخرى، وهو محاولة قراءة الحالة والسكيولوجيا، وحتى الماورائية، بطريقة متجددة مبتكرة.

وإذا أسقطنا هذه المفاهيم العامة، على واقع الحال في الفن الإماراتي المعاصر سنجد المدارس الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، والتأثيرية والرمزية وصولاً إلى التجريدية والمفاهيمية، الحاضرة في العطاء الفني الإماراتي، وبطبيعة الحال فإن هذه المسافة الإجرائية بين المستويين القديم والحديث والأحدث، لا تلغي تكاملية المشهد من جهة، ولا تلغي كل خصوصية من الخصوصيات من جهة أخرى.

ففن التصوير يعتمد فيه الفنان على اللوحة التاريخية المعروفة، فيما تنزاح الفنون المعاصرة صوب أبعاد جديدة ذات طابع تركيبي مفاهيمي، وتتموضع في البعد الثالث الواقعي، أي أنها تجسد العلاقة بين اللوحة المعروفة من جهة وفن النحت من جهة أخرى، فالفراغ المنظوري في المفاهيمية هو حقيقي وليس كما هو في اللوحة التاريخية.

والعمل المفاهيمي يعتمد على الألوان والإضاءات وغيرها من مؤثرات مستعارة من عالم المسرح والسينما، والوسائط المتعددة، أي أننا بصدد حداثة فنية تعتمد على الفنون الممزوجة، أي استعارة عناصر فنية متعددة منها الفيديو آرت، الفن التركيبي والمفاهيمي والبعد المنظوري الواقعي، والمناورة على الكتلة وعلى التكوين، من خلال هذه العناصر في هذه الفنون الحداثية.

وأتصور أن الفنون المستقبلية ستكون ذات أثر تفاعلي بالمعنى الأفقي والعمودي، إذ إن دخول الرقمنة وانتشارها على نطاق واسع وتواشج الأطر، ونشوء وتطور الأحداث في المجال الإبداعي، وكذلك في المجال النقدي، هو ما يؤدي في هذه الحالة إلى انحسار الحواجز التقليدية .

*ناقد وفنان تشكيلي

Email