أمس واليوم

سجاد الأقليات في إيران.. نسيج يُروى وروايات تُنسج

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك أن السر في شهرة السجاد الفارسي عبر العالم، هو في سحر الأيادي الفنية الماهرة في التعامل مع النسيج، وفق معايير فنية حاكت نقوشاً فارسية مميزة، تتصدرها الطبيعة المتخيلة، لينطلق المبدعون هؤلاء في اشتغالهم على تكريس مفردات الطبيعة في السجادة والفرش لإحضار مشاهد مزدحمة دون فوضى لطيور نادرة تغازل الأغصان بين الزهور البرية بأنواعها المنتشرة والنادرة، فضلاً عن أعشاب الزينة المتنوعة التي تضوع بأزكى الروائح، إضافة إلى تجسيدها لمشاهد تجسد حيوانات وزواحف مختلفة في غابات بلاد فارس وسهولها.. ومنذ أقدم الأزمان، رسخت مدارس السجاد في تبريز ثقافة الطبيعة الفارسية الساحرة لتحولها إلى منهجٍ يُحاك على السجاد عبر أنسجة الصوف والحرير، لتتفرد السجادة الفارسية بهويتها الخالصة.

ثقافة النسيج

لم يكتفِ النساجون الفرس الذين تجاوزوا في عددهم المليون فرد، بعرض حقول الطبيعة في سجادهم، بل ذهبوا إلى الأشكال الهندسية، والتي من المحتمل، كما أرى، أن تكون نابعة من هندسة البناء بأنواعها، أو لعلها خطوط ترمز إلى قياسات في علم الأبعاد تُماثل كميات ومقادير في حقل من حقول الفن الهندسي.. ودون الإطالة في شرح نظريات النقش في مدارس السجاد، فإنها ولجت إلى القصص الأدبية والأساطير القديمة والحكايات الشعبية لتُنسج لا كنصوص وحروف بل كلوحة معبرة في السجاد.

وبعيداً عن السجاد الفارسي والقصص والآداب التي يترجمها، هناك ملمح آخر يتجلى في السجاد الإيراني، وهو ما يسمى بسجاد الإثنيات والقوميات المتنوعة والأقليات الدينية في إيران. سجاد لعله لم يصلنا تسويقاً كما يجب، لكن اصطلاحه يعبر بجمال عن ثقافة تلك الجهات وهوية نقوشها، ويبقى البعض متوهماً أنها فارسية لكنها مختلفة تماماً، فهؤلاء في إيران، باختلاف أعراقهم ولغاتهم وعاداتهم وتاريخهم يبقون مختلفين عن الثقافة الفارسية المعروفة، إذ يحيكون الأنسجة بإبداع مختلف لتكون مُعبرة عن حضاراتهم الخاصة التي يعيشونها في ظل الدولة الإيرانية، لتحافظ على هوياتهم.. وسنأتي بالشرح في الشأن لاحقاً.

وثائق

لم يكتفِ المشتغلون في السجاد الفارسي بترويجهم للجغرافيا الطبيعية لبلاد فارس، بل تحولت صناعة السجاد على أيديهم إلى التعبير عن وجود أولئك الذين يحملون فكراً مغايراً واعتقاداً دينياً متمايزاً، ليعبروا عن إيمانهم، ويوثقوا ما يحملونه من اختلاف فكري أو عقائدي نقشاً وفناً في السجاد، فالأقليات الدينية في إيران متعددة، كاليهودية والمسيحية والزرادشتية والبهائية.. ويبدو ذلك جلياً في الكنائس والمعابد المرسومة على السجاد.. والتعابير القصصية الدينية التي تدخل في النسيج ليروي على البصر صوراً منسوجة ومؤثرة، بتفاصيل منقوشة تبدو كرواية تروى دون نص، كتلك السجادة الخاصة بالأقلية اليهودية التي نُسجت عام 1910م، بنسيج من حرير نادر، وتُعبر عن الأسباط وقوم إسرائيل مع الوصايا العشر وتفاصيل الديانة اليهودية، إضافة إلى تعبير عن المسيحية، كذلك البهائية وحياكة حدائقها الغناء، بالمقابل، وثقت هذه السجادات لوحات الأقليات العرقية والدينية في إيران.

الآداب

رغم كثرة السجاد الإيراني في السوق، يغفل أغلبنا معنى تلك التعابير التي يصطبغ بها، فلا نرى من فرط سرعة الاختيار من ألوان جميلة، سجادات الآداب والثقافات المعبرة عن القصص الأدبية المعروفة في تاريخهم الثقافي والحكايات الشعبية، مروراً بكتابة القصائد وروايات العشق وأساطير وأشعار وشخصيات أدبية نسجت وجوههم «بورتريهات» منسوجة لتخلّد، وعبر السلالات، خرج النساجون من جيل إلى جيل، ليسجلوا في تاريخهم العديد من الأنسجة والزخارف في بساط يبحر عبر القارات.. وغالباً يُعلق هذا النوع من السجاد على الجدار، ولا يُبسط أرضاً.

تفرد

بالعودة إلى الإثنيات في إيران، وسجاداتها المختلفة تماماً عما ذكرناه.. ليرى المتابع أن إيران بحدودها السياسية الحالية تضم أقليات أخرى لا تنتمي ثقافتها إلى الثقافة الفارسية، بعد أن ضمت كل تلك الأقليات عبر تاريخها إلى حدودها، دولاً ومدناً وأراضي وبحاراً شاسعة.. فهناك عرب وبلوش وأذر وقاشان وكرد وأرمن وتركمان تضمهم إيران بحدودها السياسية الحالية، ولأن تلك الأقليات مختلفة بلغاتها وثقافاتها وعاداتها عن حضارة فارس وسجادها الأصفهاني والشيرازي والتبريزي، أثبتت هذه الأقليات وجودها في ما تملك من تراث غني وثقافة عميقة ومغايرة، إضافة إلى مهارة أبنائها في إنتاج السجادات التي تتميز عن السجاد الفارسي بتنوعه، ليتفرد هؤلاء في تراثهم وثقافتهم عبر السجاد المنسوج.. لتنتفي فكرة حصر السجاد بالهوية الإيرانية مع الزمن، فهناك السجاد الإيراني الأذري والإيراني البلوشي والإيراني القاشاني والإيراني التركماني والإيراني الكردي.. وإلى آخره.

سجاد الحضارات

سجاد الأقليات في إيران يتبع في نقشه رموز حضاراتها الخاصة، كالحضارة العيلامية في الأحواز، وحضارة ملوخا لدى البلوش.. وغيرها، لتدخل نقوش تلك الحضارات في سجاد الأقلية وتمنحها مع النسيج الملون أساطير تاريخية وقصص الحب والحروب ومواقف هذه الأقليات السياسية، ليظهر السجاد موثقاً بالأدب والتاريخ الخاص بها.

السجاد التركماني

التركمان هم من الأقليات المعروفة في شمال شرقي إيران، ومعظم البسط المنسوجة لدى هذه القبائل التركمانية، صغيرة الحجم، تغلب عليها الألوان الأرجوانية، لكنها تتميز عن السجادة الفارسية لما لها من خصوصية حضارية، وشعبية كبيرة لاستخدامها اليومي، ونادراً ما نجد السجادة التركمانية كبيرة الحجم، حيث لم يتوقف إبداع النساجة التركمان في ورشهم وهم ينسجون بعواطفهم ومشاعرهم، لتدخل الأهداف الفنية لا التجارية، وهكذا خرجت من بين أيادي القبائل التركمانية إلى العالم صناعة الحقائب اليدوية والوسائد والملابس.. وشرعت تعبر السجادة التركمانية عن الهوية، وفازت صناعات هذه الإثنية بجوائز عدة.

السجاد الأذري

السجاد الأذربيجاني، يشكل 40 في المئة من صادرات السجاد الإيراني.. لذا ينبغي علينا عدم الخلط بين أذربيجان الروسية وأذربيجان الإيرانية فهي إلى زمن طويل كانت بين حدود هاتين الدولتين، وسواء هنا أو هناك تبقى ثقافة أذربيجان مختلفة، ولديها الفولكلور الخاص بها والأهم السجاد الأذري الذي وصل إلى كل أنحاء العالم، لأنه يصنع يدوياً. ولأهلها تاريخ طويل مع النسيج. وتتميز نقوشها دائماً بثلاث ميداليات هندسية، وتقع أذربيجان الإيرانية في شمال البلاد، ومنذ القرن 19 ضمتها إيران بعد حربها مع روسيا إلى أرضها، أما أذربيجان الروسية فاستقلت بعد التفكك الروسي.

السجاد البلوشي

القبائل البلوشية في إيران لديها السجاد الخاص بها، لما تتميز في تعابيرها بألوانها الغامقة، من الأزرق والأحمر والبني والبنفسجي والأرجواني.. إضافة إلى اللون الأسود، ليختلف في سحره وهويته الحزينة، مع غياب الألوان المشرقة والبهية، ومع ذلك، فإن عتمة الألوان تمنحها التناسق مع رسومات السجادة، من نوافذ ومحاريب. ويقول أحد النساجة عن تلك الألوان إنها غير مُتعمدة فهي تُخلط مع قشور الجوز. وتتميز السجادة البلوشية أيضاً عن غيرها بحواشيها المجدولة، لتخرج القطعة مُكلفة تصلح مهراً للعروس، وأغطية أبدية للسروج، وأغطية لاستعمالات عدة.

السجاد الأحوازي

عند عرب الأحواز في الجنوب الذين ينتمون إلى حضارتهم العيلامية القديمة والممتدة والمتواصلة منذ آلاف السنين مع الحضارة السومرية في جنوب بلاد الرافدين، يصنع الأحوازيون الحصيرة التي تشتهر في تلك الأراضي الجغرافية الرطبة التي تدعى الأهوار، وهي مسطحات مائية يشتهر أهلها بصناعة الحصير كصناعة أولية، في الجنوب الغربي المتصل بالعراق.. إضافة إلى إنتاجهم لسجادات عربية أحوازية.

السجاد الكردي

اشتهرت السجادة الكردية في زخرفة الميداليات، إضافة إلى رموز متسلسلة وكأنها نصوص تُقرأ بين هذا الشعب الموزع في أربع دول من ضمنها إيران، أي الإقليم الكردستاني الإيراني الواقع في شمال غربي البلاد. ينسج النساج وتُنقش تلك الزخارف الهندسية، لكنها تُجمع لتقرأ، فبعد تجميع تلك التصاميم، تتحول إلى كلام ذي مغزى ودلالة، لذا فإن النساج الكردي عالمٌ في بناء المعنى الخفي وفهم الدلالة لكل سجادة كردية، ورغم صلابة هيكل سجادهم، يبقى اشتغالهم فناً مميزاً بقطنه وصوفه وحريره.

Email