أمس واليوم

«بنو عفر» و«بنو كثير» من وادي شحوح اليمن إلى دروب الأرض

ت + ت - الحجم الطبيعي

وادي «شحوح» من الأودية المشهورة المتفرعة من وادي حضرموت الكبير في اليمن، كما أنه من الروافد الصغيرة للوادي، وقد جذبني الاسم في تشابهه مع مسمى قبيلة الشحوح في رؤوس الجبال في شمال شرقي الجزيرة العربية، الواقعة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان.

ويبقى المسمى في اليمن لوادٍ لا لقبيلة، لكنه واد مشهور سمي بهذا الاسم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ولا أثر لمصدر أطلع عليه أو أتبصر منه سبب التسمية، لكنه واد سكنته قبيلتان تُعدا من أشهر القبائل في تاريخ اليمن، وتناسلتا من قحطان أبي العرب العاربة.

وهما: آل كثير «الكثيري» الذين تأسست دولتهم: سلطنة الكثيري «في اليمن وكانت عاصمتها سيئون، أما القبيلة الأخرى فهي العَفار التي يتحدث أبناؤها اللغة العفرية القريبة في مفرداتها من العربية والعبرية، وكان لهم دور مهم في نشر الإسلام فيما بعد وخاصة في منطقة القرن الأفريقي، بل أخذوا على عاتقهم دور هذا النشر منذ دخولهم إلى الدين الإسلامي. ومع الوقت أسسوا سلطنات وممالك عديدة، وانتشروا بهجراتهم إلى البلاد العربية والأفريقية والآسيوية.

أصل ومعنى

ولأن وادي شحوح وادٍ زراعي، ازداد مع الوقت عدد المنازل حوله، وكما أن الأنهار جاذبة لقيام الحضارات حولها، فلا شك أن الوديان لها الدور ذاته، فهي تخزن في بطونها المياه التي تصنع الطبيعة الساحرة، وبالتالي تساعد على قيام القرى والمدن حولها، وهذا ما حصل مع وادي شحوح، الذي لا يعد الوادي الوحيد هناك، فوادي حضرموت لوحده يحاصر مدنًا وقُرى، وتنحدر منه أودية أخرى رئيسية وفرعية تصل لجميع مدنها، مثل: شبام وشحر وباوزير وسيئون ومريمة وعراهل وتريم.. وحتى سقطرى.

وما يعنيننا هنا عن وادي شحوح الذي سمي بهذا الاسم، ولا يوجد بحث أو مصدر عن أسباب هذه التسمية، أنه يبقى الاعتقاد الأغلب للمعنى هو شح المناخ أو الكلأ أو المكان في فترة التسمية.. لأنه في بعض الفترات من الزمن تصبح الأرض يابسة جراء شح الغيث مما يؤدي إلى تغيير الاسم هذا حسب الاحتمال الأقرب لهذا التفسير، بالإضافة إلى تفاسير مُتخيلة أخرى.

وإن عُدنا إلى هذا الوادي، نجد أن هذا ما حصل، فعلًا قبل سنوات، حيث تراجع نمو أشجار السدر والسمرة، وبالتالي الغطاء النباتي كاملاً، بسبب ندرة الأمطار، فأدى ذلك إلى انسحاب الناس بحزن من هذا الوادي، وكذا إلى اختفاء تجمعاتهم المعهودة في مواسم العسل المعروف بعسل السدر، والذي كان يُحتفى به من قبل النحالين.

صفات

نعود لكلمة شح في اللغة، إذ يعتقد البعض بأنها تنحصر في معناها في: البخل. ولكن، في الحقيقة، يتسع المعنى ويتمدد ليشمل الحرص والإمساك.. مما يوحي في الغالب بخروج المعنى من ظرف المكان، لتبقى لنا العلل التي من أسبابها المناخ الصعب، وليس لكون الشح صفة في أفراد المستقر وأناسه، بدليل أن أشهر صفات قبيلة العفار التي سكنت وادي شحوح، هي صفة الزهد، بل إنها تتحمل التقشف بشجاعة نادرة، لكنه مع الضيف يفيضون بكرمهم، بل يجودون في ضيافته بكل ما يملكون.. وهم من أشهر الذين يستخرجون الأحجار الكريمة من البحر الأحمر.

اطلعتُ على الكثير من أشجار النسب لهاتين القبيلتين العريقتين، ووصلتُ بأصلها، اسماً وراء اسم، حتى الوصول إلى زيد بن كهلان وهو بطن من القحطانية والتي هي من همدان في اليمن، كما ورد ذلك في جميع المصار، سواء في كتاب «تأريخ ابن خلدون» لعبدالرحمن بن خلدون، أو موسوعة «نهاية الإرب في فنون الأدب» للمصري شهاب الدين النويري.

المعافرة

وفي تتبعنا للعفر فقد نزح منهم الكثير، قبل أربعة آلاف سنة، من اليمن إلى القرن الأفريقي ليستقروا- إضافة إلى ساحل البحر الأحمر- في إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي. كما هاجر بعض منهم إلى شرق أفريقيا، حيث جزر القمر وزنجبار وكينيا وتنزانيا وموزامبيق، بالإضافة إلى جنوب شرقي آسيا في إندونيسيا وماليزيا وبروناي وسنغافورة.. وإلى دول الخليج العربي، كما ذكرنا.

سالم بن غبيشة وسالم بن كنيبة

هما من قبيلة الرواشد/ الكثيري، رافقا الرحالة البريطاني المشهور ويلفريد ثيسيجر، الذي أطلق عليه اسم: مبارك بن لندن، في رحلته المشهور في جزيرة العرب، ومن ضمن ما شملته تلك الرحلة: صحراء الإمارات عبر صحراء الربع الخالي.

وكان سالم بن غبيشة وسالم بن كنيبة رفيقي دربه بين 1945 إلى 1950م في رحلته الخطيرة تلك. وكما يرويها مبارك بن لندن، فإنها كانت رحلة مثيرة ومختلفة في تلك الرمال العربية الصعبة وخاصة في الربع الخالي.

كما يصف في كتابه «رمال عربية» دور سالم بن غبيشة الراشدي الكثيري وكذلك دور سالم بن كنيبة الراشدي الكثيري مع أفراد من قبائل أخرى، في نجاح رحلته. وتُعد سيرته من السير المهمة في تاريخ المنطقة التي لامست ذاكرتها الأصيلة والنادرة، قبل أن تُمحى، لذا منحه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وساماً تقديراً لجهده، وذلك أثناء زيارته لأبوظبي في عام 1990م.

آل كثير

استطاع آل كثير تأسيس حضارة متميزة. وهي تتوزع، أيضاً في مختلف أنحاء الجزيرة العربية منتشرة بين عدة دول، خاصة في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية وقطر.

وفي الإمارات، تمثل إمارة الشارقة وبني ياس واليحر والمقام بأبوظبي، مقر الانتشار الأبرز والأهم للقبيلة والتي غدت تدعى الرواشد. ومن أشهر شخصيات القبيلة، مرعي بن عمودة الكثيري، رئيس الوزراء الأسبق «والأول» لجمهورية تيمور الشرقية في جنوب شرقي آسيا قرب أستراليا.

العفار

عفر بطن من زيد بن كهلان القحطاني، هو أحد أحفاد قحطان. ويبلغ عددهم الآن ما يزيد على مليون ونصف المليون نسمة في وادي شحوح، وفي معنى الاسم فإن عفار يعني مُلقح النخل. كما أطلق عليهم الأحباش، ومنذ العصور الوسطى، اسم الدناكل، لذا تناديهم الغالبية بهذا المسمى.

ومن صفاتهم التي تقارب اسم واديهم إلى الآن، الزهد والتقشف والصبر على قلة الموجود من الموارد، مقابل الكرم وقوة البدن والشجاعة النادرة.. ولا يزالون في الوادي يمتهنون الزرع والرعي والصيد، بجانب جمع الأحجار الكريمة من البحر الأحمر، بالإضافة إلى أن لديهم لغة خاصة بهم، وهي من اللغات القديمة، ومعروفة باللغة العفرية، لكنها لغة سامية تنتمي إلى اللغة الكوشية، رغم تشابهها مع اللغة المعينية.

السلطنة الكثيرية

تأسست السلطنة الكثيرية عام 1379م في مدينة سيئون بحضرموت التي اتخذتها عاصمة لها، وخرج منها سلاطين كُثر، وانتهت هذه السلطنة عام 1967م بانضمامها إلى اتحاد إمارات الجنوب العربي. لكن يبقى قصر السلاطين آل كثير أو حصن الدويل، كما يطلق عليه البعض، من أجمل ما تركوا من معمار، إذ يُعد أبرز تحفة أثرية فنية تم ترميمها أخيراً.

Email