جوازات السفر القديمة.. وثيقة التطور الإداري والاجتماعي في الإمارات

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«الجواز» لغة هو «صكّ المسافر»، وهي مشتقّة مِن جواز الطّريق أي عبوره. والجواز في العصر الحديث له مفهوم المواطنة والدّولة على اعتبار أنّها وحدة سياسيّة متجانسة. و«الجواز» وهو وسيلة للإذن بالسّفر، وهو وثيقة تعريفيّة بالشّخص. كما أنه يمثل في دولة الإمارات العربية المتحدة، كما في سواها، توثيقاً لانتماءات الأفراد إلى بلدهم، وإثبات شخصيّاتهم والتدليل على مناطقهم.

ولا شك أن إنشاء جهة أو إدارة مسؤولة عن هذا الإجراء الخاص يعدّ من المظاهر المهمّة التي حدثت في الإمارات، وكنوعٍ من التطوير الإداري في مدن ومناطق الإمارات، منذ نهايات الخمسينيات في القرن الفائت.. وتطلّب ذلك توثيقاً وتدويناً في دفاتر خاصّة، لها سمات مميّزة تختلف عن ورقة السفر التي كان يتحصّل عليها الأفراد قبل ذلك.

نتيجة لهذا التطوّر في إصدار الجوازات، ظهرت اهتمامات لدى الأهالي بتواريخ الميلاد التي لم يكن يتعارف عليها كثير منهم، وبإصدار الجوازات بدأت تتثبّت لدى الأهالي مسألة التأريخ، وعلى الرغم من حدوث أخطاء في تسجيل التواريخ، وفروقات بين الإخوة في كتابة تواريخ ميلادهم.

إلا أنّها أحدثت حركة إيجابيّة في المجتمع المحلّيّ، وجعلت النّاس يتساءلون عن هذه التواريخ التي كاد ينساها فريق منهم، وكاد بعضهم يعتمد فقط على الذكريات الحادثة، التي ربط الأهالي بينها وبين تواريخ مواليد أبنائهم.

ولم يكن كثير من الأهالي يوثّقون مثل هذه التواريخ إلا بربطها بتلك الأحداث، ولكن مع بدايات صدور الجوازات تغيّرتْ الاهتمامات، وظهر تدوين جديد. بل بلغ الحال ببعضهم الذهاب إلى الطبيب لتحديد الأعمار، ونتج عن ذلك أيضاً توثيق جديد مرتبط بالنواحي الطّبيّة، وإصدار شهادات ميلاد تقدّر الأعمار.

وتطلّبت كتابة الجوازات وجود خطاط، جميل الخطّ، واضح الحروف، فكان البحث عن الشخص المناسب الذي يجيد الكتابة، وكان بمثابة حُسن وكأنّه واجهة للإمارة، وكان يشترط أن يكون هذا الخطّاط ملماً باللغة الإنجليزية أيضاً، لأن الاسم يُكتب باللغتيْن: العربية والإنجليزية، كما أنّ ترجمة بعض الألفاظ إلى الإنجليزية، مثل: المهنة والأوصاف الشخصيّة، تطلّب على الأقلّ وجود قاموس تُمكّن معه للكاتب معرفة الكلمات في اللغتيْن.

ثمّ انتقل الأمر لوضع الأختام على صفحات الجوازات كنوعٍ من تصديقٍ لإصدار الجواز من قِبل الحاكم أو مَن ينوب عنه أو المسؤول عن الإدارة. وكان الحاكم بنفسه، في البداية، يوقع على الجواز نظراً لقلّة عدد النّاس أو بفعل بدائية العمل الإداري في هذا المجال، وبلا شكّ فإنّ توقيع الحاكم أو نائبه يُكسب الجواز بُعداً نفسيّاً وسياسيّاً وإداريّاً.

وكان من أكبر محفزّات إصدار الجوازات في الإمارات هو ما حصل من تغيّرات إداريّة في دول الخليج العربيّة الأخرى، التي أصرّت على حصول مواطني الإمارات، على وثائق سفر كشرطٍ لدخول أراضيها. وهو أمر لم يعتده الأهالي من قبل.

فهم كانوا يتنقّلون بين دول وإمارات الخليج العربي من دون وثائق سفرٍ تذكر. فإذن كانت إصدارات الجوازات بحدّ ذاتها نقلة نوعيّة في ميدان التوثيق والتدوين، فعن طريقها جرى وضع الأُطر الأولى للمواطنة وليس الانتماء القبلي فقط، وإن كان ذلك في أشكاله الأولى.

«كريم العينين»

ومما لا شكّ فيه، فإنّ تدوين اسم حامل الجواز، ووضع صورة شخصيّة له، كانت أولى مراحل التدوين التي تسبق توقيع الحاكم أو مَن ينوب عنه، ثمّ تسجيل صفات أو نعوت حامل الجواز، وبالذات المميزات الظاهرة على الوجه مع انتقاء الألفاظ المناسبة، فمثلاً: كان يدوّن: كريم العينين، بدلاً عن أعمى. وكريم العين اليسرى، بدلاً عن أعور. ومتسبّب، بدلاً عن عاطل عن العمل. فمثل هذه العبارات والألفاظ لها وقع نفسيّ على حامل الجواز مع علمه بوضعه البدني والنّفسيّ.

ومن حُسن الحظّ أنّ الجوازات القديمة حفظت لنا أسماء العديد من القرى والبلدات والأماكن، حيث إنّه توجد خانة في الجواز مسجّل فيها: مكان الميلاد، وكان النّاس يولَدون في قرى وأماكن سكناهم الأصلية حيث بيوتهم وحاراتهم، ولا في المستشفيات أو المدن الكبرى، فإنّه كان يدوّن ذلك المكان في الجواز، ومن هنا يتعرّف الباحث على أسماء مواضع ربما هي غير موجودة الآن بمسمّياتها القديمة، أو أنّها هُجرت ولم يبقَ فيها أحد الآن، فإذن بفضل هذا التدوين احتُفظ بها، وبأسمائها، وأعيانها.

كما احتفظ التدوين في الجوازات بتواريخ الإصدار والانتهاء والتجديدات، وهو ما منح الباحث فرصة للتعرّف على الفترة الزمنية التي تمّ فيها إصدار هذه الجوازات، منذ بداياتها وإلى زمن نشوء الدولة الاتحاديّة. ومن الجدير بالذِّكر أنّ البداية المتواضعة لإصدار الجوازات كانت هي النّواة التي تشكّلت على أُسسها بعد ذلك إدارات الجوازات والجنسيّة.

ممّا وفر فرصة للتعرّف على التطوّر الإداري في كلّ إمارة، وساهم في تقديم معلومات حول الأنظمة المعمول بها في كل منها، وهو بلا شكّ ما يساهم في تجميع مادّة علميّة حول التطوّر الإداري في الدولة ككلّ.

وكان إصدار الجوازات قد ساهم في تشكّل الإطار الإداري والسياسي لكلّ إمارة حيث أصبح المواطنون ملتزمين بإدارة معيّنة تتبع كلّ إمارة، وترسّخ مفهوم المواطنة لديهم بانتمائهم لإماراتهم، ثمّ تطوّر هذا المفهوم إلى الانتماء لدولة واحدة هي دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو الإطار الجامع لكلّ المواطنين في هذه الدولة النّاشئة.

وفي أثناء إصدار الجوازات تطلّب الأمر تحديد هويّة وجنسيّات مواطني الإمارات عبر حملهم جوازات خاصّة بهم، ذلك وإن لم تحدّد لوائح بعينها أو بناءً على قوانين وقواعد بذاتها تنظّم عمليّة منْح الجوازات.

إذ لم تكن قد تبلورت بعد، حينها، قواعد وقوانين منح الجنسيّة. وكان حملة الجوازات من أبناء الإمارات يقدّمون هذه الوثائق المهمّة في أماكن عملهم في دول الخليج العربيّة، مما ولّد عندهم شعوراً متنامياً بالانتماء إلى وطنهم المتكامل الذي تشكّل بعد ذلك.

كما حملتْ الجوازات توقيعات حكّام الإمارات بذواتهم مما يشعر بأنّ هذه الوثيقة مهمّة، إذ يتابعونها شخصيّاً «الحكام»، ويمنحون الموافقة على إصدارها، وقد أصبحت بالنّسبة لهم ميداناً لممارسة السلطة. وكان يتوجّب على مَن يرغب في الحصول على جواز أن يدفع رسماً معيّناً. وقد تمّ إصدار آلاف من هذه الوثائق في سنوات مختلفة، الأمر الذي يعني دخلاً ماديّاً متزايداً للإمارة المعنيّة.

تقدّم لنا الأختام الممهورة بها الجوازات معلومات عن الأماكن والبلدان التي سافر إليها حاملوها وأزمان أسفارهم، وبمجرّد تذكيرهم بها فإنّها تستثير ذاكرتهم، وتهيّج ذكرياتهم في الحديث عن تلك الرحلات مما يتحصّل منه التعرّف على الحيوات الشخصيّة للأفراد، ومساهماتهم في الحياة العامّة، حتى ولو كان حامل هذا الجواز فرداً عاديّاً في المجتمع، ولكن بنفسه، وفي إطار عائلته، يعدّ مؤثّراً.

ديباجات

وكانت ديباجة الجوازات الحمر القديمة، وهي المعروفة بجوازات الإمارات المتصالحة:

نودّ ونرجو مِن الأصدقاء الكرام رجال الدّول العظام وممثّلي الحكومات أن يسمحوا لِحامل هذه الوثيقة حريّة المرور مِن غير تعويق وتأخير، ويسهّلوا الصّعوبات في سبيله ويراعوه بكلّ ما يحتاج إليه مِن المساعدة.

ثمّ لمّا جرى تغييرها إلى الجوازات الخضر، أصبحت الديباجة:

نودّ ونرجو مِن الأصدقاء الكرام رجال الدّول العظام وممثّلي الحكومات أن يسمحوا لِحامل هذا الجواز بحريّة المرور مِن غير تعويق وتأخير، ويسهّلوا الصّعوبات في سبيله ويراعوه بكلّ ما يحتاج إليه مِن المساعدة.

وتلك هي العبارة نفسها مدوّنة على الإصدارات الحمر الجديدة.

وبإصدار هذه الوثائق، تبيّن ووضح من هم أهل المنطقة مِن غيرهم من المهاجرين غير الشّرعيّين إلى منطقة الخليج العربي.

كما مكّنت هذه العملية أهالي الإمارات من السفر وحرّيّة التنقّل في وقت كانوا بحاجة إليها، نظراً لسفرهم إلى دول الخليج العربيّة بهدف العمل ورعاية أسرهم، وإعالة أبنائهم، وكانت دول الخليج العربي الأخرى تمنع دخول مَن لا يحمل وثائق سفر رسميّة، فكانت هذه الجوازات فتحاً على النّاس الذين ضعفت حالتهم الماديّة، بعد كساد تجارة اللؤلؤ في المنطقة، وظهور النّفط في الكويت والبحرين والسعوديّة وقطر، فتوافّرت هناك فرص للعمل.

كما سهّل سفر عدد مِن أبناء الإمارات إلى الكويت وقطر والبحرين، تحديداً، طلباً للعلم ومواصلةً للدّراسة، فكان ذلك عاملاً إضافيّاً سرّع بإصدار وثائق سفر لهؤلاء الطّلّاب. وفي حقيقة الأمر، فإن السلطات البريطانيّة قد شجّعت على تولّي مختلف الإمارات إصدار الجوازات ضمن الإطار العام لكلّ دول وإمارات المنطقة.

ونظراً إلى أنّ إصدار الجوازات كان في بداياته فإنّ بعضها جرى تزويره، إمّا بتزوير التوقيع الرسمي، أو بوضع صورة هي غير صورة صاحب الجواز الأصلي، أو عبر مسح الاسم الأصلي وكتابة اسم آخر بدلاً عنه، خاصّة وأنّ هذه الجوازات مِن الوثائق التي تفتقر إلى وسائل التّأمين التي يجب أن تكون في وثيقة السّفر.

وهي غير مؤمَّنة بعلامات مائيّة أو أحبار فوسفوريّة أو خيط أمان، ولذا يسهل على المزوّر التّعامل مع البيانات المدوّنة عليها. وتحرر البيانات بطريقة يدويّة بواسطة المداد، وهي أيضاً عرضة للتّزوير.

توقيعات وتأشيرات

كان توقيع حامل الجواز غير موجود في جميع الجوازات، لذا فهي «الجوازات» وبهذه الحال، ليست تلك الآونة مضمونة وضمانة بل دافعة أو مغرية للتّزوير.

وغالباً ما كانت تكتشف هذه التزويرات، إمّا في الإمارات نفسها أو في دول الخليج العربية الأخرى.

وكانت الجوازات تحمل تأشيرات السّفر الصادرة بموافقة السلطات البريطانية، التي تتيح السفر إلى الهند وبريطانيا والولايات المتحدة وإيران وغيرها من دول العالَم، مما يشير إلى أنّ أهالي الإمارات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت لهم صولات وجولات على المستوى العالمي.

أختام دبي

تظهر لنا أختام بلدان الأسفار وطرق الأسفار البرّيّة والبحريّة والجويّة، على الجوازات القديمة، في خمسينيات وستينيات القرن الفائت، حركة ونشاطاً، آنذاك، في مطارات: أبوظبي ودبي والشارقة.

وكذا حركة أنشط في السفر بحراً خاصّة من دبي التي كانت ميناءً مزدحماً، دائم الحركة كثير النّشاط، وكانت دبي منطلقاً لغالبية ارحلات بواخر شركة «كري ماكنزي» القادمة من الهند والمتّجهة إلى الكويت وبوشهر.

ومَن يطّلع على الأختام الممهورة بها الجوازات في تلك المرحلة، يلاحظ إشارات كثيرة ومتعدّدة لميناء دبي وميناء الشندغة، مما يدلّ على ما تمتّعتْ به دبي، مذاك، من مكانة حيوية تنامت مع مرور الوقت.

Email