ذات الوشاح الأبيض

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أطلقت تنهيدة طويلة وزفرة ضيقٍ ساخنة كادت تحرق وجنتي الصغيرتين وأنا كصرة مال حرام وقع بين يديها رغماً عنها، فاختلط تلعثمها بكيلٍ من الشتائم والسباب الملّغم باللعنات تعبيراً عن حزنها على أمثالي!

ـ لعنة الله عليهم! تمتمت بامتعاضٍ مريب.

ـ يجب أن نضع حداً لمثل هؤلاء؟ لقد اكتظت المدينة بقطع لحومهم المرمية في سبيل الحرام.

ـ هوني عليك ودعي الأمر لله! هكذا ردت (ماما حليمة) الأخصائية الاجتماعية الأساسية في دار الأيتام.

رمقتها (مدام رقية) بطرف عينها اليسرى ولم تنبسا بعدها ببنت شفة.

مرت سنتان، وأنا مع أترابي «اللقيطات» أو هكذا سمعناهم يلقبوننا في الخفاء وهم يتحدثون عنّا بخبث، بينما كنا نلهو كفراشات بلا أجنحة، في حديقةٍ بيضاء بلا شجر بلا زهر بلا عشب أو قلب، ليبقى صراعي الأزلي مع لون الفراغ الذي يأكلني من الداخل، لون اللالون، لون أفكاري البلهاء وذكرياتي الخالية، لون أمنياتي الخاوية، ولون صفحات أيامي وخبراتي في الحياة، ولون ذلك الحيز الذي شغله صدري قبل أن يعلن الذبول والدخول إلى عالم مهترئ.

داهمنا المطر أنا وأقراني اليتامى، فتخلخلت قطراته إلى أرواحنا بالسعادة القصيرة المدى، كنا مخلوقات دمعية مفككة، هشة كالبسكويت الذي نتسلل إلى المطبخ ليلاً لسرقته وسد جوع بطوننا بينما تتضور أرواحنا جوعاً.

ـ هيا إلى الداخل أيها الأطفال كي لا تصابوا بالبرد، من تظنونه سيعتني بكم حين تمرضون؟

ـ حاضر (مدام رقية)، أجبناها بهتاف واحد كجيش طفولي منظّم، كما لو كان لدينا الخيار للرفض أو الاعتراض.

(ماما حليمة) سيدة أنيقة متعلمة مثقفة في منتصف الثلاثينات من عمرها، امرأة عاقر وتعيش حياة بلا حياة مع زوجها (بابا عمر) أو هذا ما سيكون اسمه لاحقاً، وهو رجل أعمال معروف كثير الأسفار، شديد الانشغال والشغف بزوجته التي تعمل في هذا المجال لتشبع نهم أمومتها المفقودة، فلقد تحمّلت مزاج راعية الدار (مدام رقية) المتقلّب كثيراً، ولطالما كنا نسمع صراخهما وجدالهما ينفذ بين الممرات يثقب طبلة آذان الجدران، مستهزئاً بقدرات مفاهيمنا حول كيفية تربية الأطفال الصحيحة، ولذلك لم نفهم شيئا وأنا بدوري لم أفهم سوى أنني كنت أبتسم دائماً عند رؤيتها أو سماع خطوات كعبها يدق كنبضٍ منتظم الإيقاع على صدر الأرض وصولاً إلى قلبي.

عند استكمال جميع الإجراءات الرسمية، انتقلت إلى منزل أمي الجديدة، وبالأصح أمي الوحيدة، دون أن أفكر بوالدتي وأسباب انفصالها عني، ربما لأنني كنت ومازلت لا أود معرفة حقيقة أسبابها ما حييت، حيث أحببت الكذبة التي أخبروني عنها، وتعلقت بها كثيراً إلى أن صدقتها، وبعد أعوام طويلة من الحب والتفاني والتضحية والدفء والحنان والتفاهم، وقفتُ أراقب بشرى شهادتي الجامعية، كالمسحورة أتلمس جمالها بنظراتي، بينما كنت ألقي تعويذة الفرح ذاتها إلى نظرات أمي الحبيبة وأبث سحرها من بُعد، لتسقط قطرات فخرٍ غالية من عينيها، كان يوماً لا ينسى، ألهاني عن جرحي، سبى فكري، غفلتُ فيه عن الزمان والمكان، ولم أفطن لعقارب الساعة إلاّ حين نادوا اسمي (أمل) لإثبات تخرجي من كلية الطب البشري، كطبيبة أطفال تحيي الأمل، تيمناً بمن أحبتني ومنحتني فرصة أن أنقل حبها إلى ذاتي وجميع المحيطين بذاتي.

قالوا إن فاقد الشيء لا يعطيه، ثم جاءت أمي وأثبتت لي أن فاقد الشيء قد يعطيه بل وبسخاءٍ عظيم.

*كاتبة إماراتية

Email