روائي عالمـي ألهمـــته تجربــة قائــد مُثقــف

إضاءات الحرف في مُراسلات أدبية بأسلوب رفيع

أبطال تحدي القراءة العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

رسالتان مُميزتان، كتبتا بأسلوب أدبي رفيع، بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وبين الكاتب الروائي والقاص البرازيلي باولو كويلو، حيث بعث الأخير برسالة إلى سموه تحدث فيها بأسلوبه المعهود الموشى بالإنسانية والعمق، وبطريقته المميزة والقريبة في السرد عن تحدي القراءة العربي، الذي أطلقه سموه لدعم القراءة، ورد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في رسالته بأسلوبه الرفيع، مقدماً إضاءات عديدة في عوالم الحرف والمعرفة، اجترحت من تجارب الحياة والسعي الحثيث لخلق الأمثل في حياتنا المُشتركة، والتي لا يمكن أن تكون كما نسعى ونحلم من دون المعرفة، ودروبها حيث القراءة والنور.

رد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، كان في متنه الكثير من الحكم البليغة، سردها بلغة شيقة، بدأه بأسلوب قريب: «الصديق باولو كويلو»، تجاوز فيه منظر الرسمية في الخطاب، وقرب معطى الحوار، فحين تأمل متن النص الأدبي، المليء بحكمة التجربة وجد أن الخلاصة الأدبية لتجربة الكاتب والتجارب الأخرى التي استقى منها، تكمن في أن سر الحياة واكتشاف الذات يمران بطريقين لا ثالث لهما؛ القراءة وخوض التجارب.

وفي ذلك مغزى عميق لما للمعرفة من دور في فتح أبواب الازدهار والتطور؛ إذ لا مستقبل بغير كتاب، يستشهد بحاضرة بغداد العظيمة في التاريخ الإسلامي، وهي تجربة عمرها ألف عام أكدت لنا هذه الخلاصة، من خلال الحراك الثقافي المزدهر حينها والذي أهدى العالم العديد من الترجمات والعلوم قامت على أساسها نهضة عظيمة في الشرق وفي الغرب، فعدد دور الوراقة (ما نسميه اليوم دوراً للنشر) في ضواحي بغداد وحدها وصلت أكثر من 100 دار وبلغت إنتاجاتها مئات الآلاف من الكتب.

منارة للبشرية

صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، في الرسالة قدم لباولو كويلو روح الشرق وأمجاد غالية وتاريخ تليد، كان الكتاب هو تاجه، وكانت المعرفة هي نبراسه، حيث الحضارة مرهونة بالمعرفة، والمعرفة بالانفتاح والتواصل والتنوع والتعدد الثقافي لمختلف الاتجاهات الإنسانية، تنصهر في روح واحدة لتشكل منطلقاً عالمياً حضارياً، ويستطرد سموه: «كانت لنا تجربة اهتمت فيها شعوب منطقتنا بالكتاب.. فسادت وقادت وانفتحت على الحضارات الأخرى وأصبحت منارة للبشرية ومهدت لعصر النهضة الأوروبية».

يُحاجج بالبراهين ويسوق الدلالات المضيئة بأسلوب سلس، فيتحدث عن «بيت الحكمة» الذي كانت تحج إليه ركاب النور من مختلف أصقاع العالم، وازدهرت في رحابه فنون الترجمة والتواصل بين الشعوب، وشكل جسراً في عصره نحو مجتمع حضاري فيقول: «هل تعرف يا باولو بأنه في القرن التاسع الميلادي كانت هناك منارات للعلم ولم تكن فقط دوراً للنشر بل أشبه ما تكون بالمقاهي الثقافية التي يجتمع فيها العلماء والباحثون والمفكرون والمترجمون من مختلف الديانات والأطياف والحضارات للنقاش والمناظرات، فضلاً عن بيت الحكمة الذي كان يضم أكثر من مليون كتاب ويضم المئات من العلماء والأدباء المتفرغين».

الكتاب والمستقبل

يرى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أن القراءة هي طريق العلوم، التي هي درب الحضارة والتقدم، فمنارة العلم بغداد، كانت وجهة في كافة حقول المعرفة من فلك وطب ورياضيات وفلسفة عندما اهتمت بالكتاب، ويتساءل: «أين بغداد اليوم؟»، منوهاً أنه لا يحب الإطالة في ذكر المكتبات المليونية الأخرى في الإسكندرية والقاهرة والأندلس والمغرب العربي، لكننا تعلمنا من الدرس التاريخي بشكل جيد جداً، إذ لا مستقبل بغير كتاب ولا انفتاح وتقبل وتعايش وتسامح بغير كتاب، فلا إبداع وابتكار واختراع بغير كتاب، ولا اقتصاد وريادة وقيادة بغير كتاب.

تحت ظلال الكتاب

لا يتخلى عن التفاؤل، وبحكمة يقدم سموه نماذج رائدة كانت نبراساً لكل العرب، شاركت في مسابقة تحدي القراءة العربي، الذي ألهم نوابغ العرب ومواهبها من المحيط إلى الخليج، من ضمنهم فتاة المغرب كوثر، التي تلقت نبأ إصابتها بالسرطان بعد 3 أيام من اشتراكها بتحدي القراءة، ليزيدها ذلك إصراراً على قراءة 166 كتاباً في أشهر معدودة، وكذلك الفتاة الكفيفة من الأردن راما التي لم تجد كتاباً بلغة برايل فاستعانت بصديقتها التي ترى بعين واحدة فقط لتقرأ الفتاتان كتباً كثيرة بعين واحدة، وعشرات القصص الملهمة من التحدي الذي شارك فيه أكثر 3.5 ملايين طالب. يؤكد سموه في رسالته أنه متفائل بهذا الجيل، ومتفائل بروح التحدي التي رآها، ومتفائل بمستقبل عظيم تحت ظلال الكتاب.

المعرفة رهاناً إنسانياً

باولو كويلو، المفتون دائماً بكل ماهو معرفي وإنساني، زار دبي مراراً، حيث يعتبر دانة الدنيا رافداً من روافد التنوير المعاصر، حيث اختارها الكاتب سابقاً لإطلاق رواية «ساحرة بورتوبيلو»، التي خصص أحد فصولها لدبي، لما تتميز به من إمكانات وطاقة والتزامها الواضح والصارم بالحفاظ على تراثها الغني والأصيل، كما أنها وجهة ثقافية رائدة تشق طريقها بثبات نحو العالمية، وفي رسالته كتب صاحب أغلى قلم في العالم وأفخم أسلوب، عن المعرفة كرهان إنساني، فحملت الرسالة قبساً روحانيا، يشبه أسلوبه في سرده، من خلال كلمات انحازت للتجارب الإنسانية في أقصى تجلياتها، كحال كثيرين قبله وكثيرين سيأتون بعده، يبحث عن الحكمة الإنسانية وتلفه الحيرة، وهذا أسلوب مميز عند الكاتب، شاهدناه في «الخيميائي» حين سلط درب المعرفة والحقيقة، وبعد حيرة طويلة وقلق أبدي أدرك أن مهنته هي الكتابة، في مُحاولة لاكتشاف الذات، التي هي من أصعب المهام وأكثرها متعة، بوصفها المغامرة الوحيدة التي تُعطي لحياتنا قيمة.

عطر المعرفة

يرى كويلو القراءة طريقة مميزة لخوض الحياة، مثل التجارب ومشاركتها، فـ«شيئان لا يُمكن للإنسان أن يُخبّئهما، العِطْرُ والمعرفة»، وهو مثل عربي أورده في الحكاية، فالقراءة هي عِطْرُ المعرفة، والقارئ وحده مَن يَبقى عَبَقُه في كل مكان يمرّ فيه. لأنه الزّهرة التي لا نكتفي باستنشاق طيبها، بل نُحدق فيها طويلاً، ولا نعرف لماذا، ولكننا نعرف جيداً أنها تمنحنا شعوراً سعيداً.

يصل في رسالته إلى عطر فاح من الماء إلى الماء، ناشراً أريج المعرفة، من خلال تحدي القراءة العربي، الذي أرسل رسالة للعالم العربي، وربما للعالم كله، مفادها أن الحل الجذري لخروج المجتمعات من أزماتها، أياً كانت، هو القراءة، فعندما تقرأ أمةٌ ما فإنها بذلك تبدأ الخطوة الأولى في رحلة تغيير مصيرها؛ لتصنع مستقبلاً مشرقاً.

موانئ المستقبل

وتبقى الثقافة الحل المميز، فهناك أشخاص صنعوا الفرق من خلالها، ويعتبر كوبلو إنه تأثر كثيراً بشخصين، هما خورخي لويس بورخيس ومُحيي الدين بن عربي، فبورخيس يقول «دَع الآخرين يتباهون بعدد الصفحات التي كتبوها، أما أنا فسأتباهى بعدد الصفحات التي قرأتُها»، فالثقافة لا تكمن في عدد الكتب التي تملأ المكتبات، بل بمدى إقبال القُرّاء عليها، والأهم هو كم استوعبنا منها، وكم تَغيّرنا، ثم ماذا قدّمنا للحياة؟ أما ابن عربي، فقال: «كلُّ سفينةٍ لا تجيئها رياحها مِنها فهي فقيرة»، ويستطرد كويلو: «ها أنتم في الإمارات والعالم العربي بدأتم صناعة مصائركم بأنفسكم، تركبون سُفُنَ المعرفة، تملأُ أشرعتكم رياح القراءة، لترسوا بكم قريباً في موانئ المستقبل».

يزف تهانيه إلى صاحب السمو محمد بن راشد، وكل الفائزين والمشاركين في هذا الحدث الحضاري، ويتطلع دائماً لمتابعة مزيد من هذه الأنشطة التي تُعيد للكتاب مكانته الحقيقية في القرن الحادي والعشرين.

أدب المراسلات

وأدب المراسلات فن عريق، عرفته الآداب القديمة والحديثة، وهو طابع نثري أثرى المنتج الأدبي الإنساني، وشكل جنساً أدبياً مستقلاً عرف بأدب الرسائل، ويتميز في عمومه بالعفوية والبساطة والعمق الأدبي، لما يحمل من خلجات النفس في حوارها وفي ردها، وتعتبر هذه المراسلة بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وبين الكاتب الروائي والقاص البرازيلي باولو كويلو نموذجاً لهذا الأدب، يشار إلى أن باولو كويلو روائي عالمي وقاص ترجمت أعماله لأكثر من 80 لغة، وبيعت أكثر من 150 مليون نسخة من كتبه، وعين في عام 2007 رسول الأمم المتحدة للسلام.

Email