سأعيش

ت + ت - الحجم الطبيعي

العجز في هذه الحياة هو العجز الداخلي، هو كلمة «لا أستطيع»، فبرغم الصعوبات الحياتية، يظلّ الأمل في داخلي موجوداً. سأعيش، برغم الوحدة التي أحسّ بها بعد غياب زوجي، برغم صغر سني فلم أكن قد تجاوزت الثالثة والعشرين، وبرغم أسرتي البسيطة، سأعيش وأعيش

في كل مرة أمرّ فيها على شارع الكرامة أقف قليلاً لأتأمل ذلك المنزل الكبير في نهاية الشارع، يقال إن صاحبه دفع فيه حتى الآن أكثر من 7 ملايين درهم، منزل والد صديقتي سعاد، ما زلت أتذكرها منذ الصف الخامس الابتدائي وهي تحدثني عنه، أنهم سيسكنونه نهاية السنة، وتمر السنوات، وسعاد تكرر العبارات نفسها كل عام، وكبرنا وكبرت سعاد لكنها ذهبت لتسكن في منزل زوجها قبل سنتين.

اليوم هو أول نهاية الأسبوع، سأذهب إلى منزل أختي سمية لنتسامر قليلاً، ثم أمر على منزل والديّ لأطمئن عليهما وآخذ طفلتي أشواق، آه رحمك الله يا راشد، فقد كنت تملأ فراغ حياتي معك.

عدت للمنزل خامدة الطاقة، أشواق نامت بعد أن رضعت كفايتها من الحليب، فخرجت لأتأكد من غرف المنزل وإغلاقها فالحرص مطلوب، أخبرتني سمية أن منزل جارتها تعرض للسرقة وهم نائمون، استلقيت على الفراش، تصنّعت النوم، حاولت فلم أفلح، يبدو أن الخوف بدأ ينساب إلى داخلي حتى سكنني، فمددت جسدي ناحية طفلتي أشواق، واحتضنتها بصدري.

في الصباح الباكر، ذهبت لشراء مستلزمات البيت، الغلاء اكتسح الأسواق، يبدو أن التجار وجدوا حلولاً لهذه الحياة الصعبة، في حين أن الحياة ازدادت سواداً في أعين البسطاء! حتى وصل الاستغلال لأسعار الخبز وزجاجات الحليب الطازج!

وأنا عائدة للمنزل، شاهدت حادث سيارة، الحادث غريب، لم أرَ غير فتات المركبة، وحشد غفير من الناس! سألت عن الأضرار فقالوا:

ـ اللي كانت تسوق حرمة وتوفيت!

تمتمت في داخلي. لا اله إلا الله. إنا لله وإنا إليه راجعون. الله يصبّر أهلها وعيالها على فراقها!

تعود ذاكرتي للوراء. حينما كنت في السيارة مع راشد! وقتها كنت حاملاً في السابع. وكان الحادث بسيطاً. لكن حكمة القدر، غيبت راشد عن الحياة، هذه الدنيا. لكل إنسان لحظة يسلم نفسه فيها. تذكرت ابنتي أشواق. فامتلكني شوق يكاد ينفجر لألقاها. متى أصل لأضمها إلى صدري! فهي ما بقي لي من الدنيا.

أم زوجي امرأة كبيرة في السن، وكفيفة. لا تستطيع الحركة. تجلس دائماً في الغرفة الخلفية من الملحق الرئيسي ببيت عمي، أما والد زوجي فهو متزوج من أربعة ومطلق اثنتين! رجل أبسط ما أقول عنه إنه يحب الدنيا! يسعى لنيل نصيبه منها! طيب القلب لدرجة أنك لن تشعر بفارق العمر حين تبدأ بمحادثته. وقد اعتدت أن أخصص أيام الإثنين والأربعاء والجمعة لزيارتهم!

تلك الليلة طلبت مني عمتي المبيت! فهي لا ترى! لكنها تحس! فقدت البصر وامتلكت البصيرة. فما إن أعطيها أشواق حتى تلصق كفيها بوجه طفلتي! تحاول التعرف على عمرها! أذكر أنها قالت لي إنها تشبه والدها راشد!

بت تلك الليلة في غرفتها، لم أستطع النوم، أرقب أفعالها. لا فضولاً مني للمعرفة، بل لأرى كيف يتصرف الكفيف! وخوفاً عليها من التعثر والسقوط!

حركاتها دقيقة جداً، خطواتها محسوبة كأنها ترى كما أرى صورتي بالمرآة! تنهض لصلاة الفجر ما إن يبدأ الظلام بالتلاشي. قبل أن يظهر نور المآذن ليعلن يوماً جديداً.

ذهبت في الظهيرة لمنزل والدي، لا أحد هناك، فبعد أن تركت المنزل لم يبق سوى أخي الصغير يوسف. أذكر أن والدتي أصرت أن تسميه يوسف لما رأت جمال ملامحه عند الولادة! ووافقها الجميع.

يوسف أصبح شاباً، لكنه يمر بمراهقة صعبة في غياب الرقيب. فوالداي كبيران في السن وعاجزان عن التوجيه والنصح كما كانا في السابق! كل ما يقومان به إطلاق الألقاب الساخرة عليه أحياناً!

ويوسف كبقية المراهقين! طريقته الحوارية الوحيدة هي الصراخ! وأسلوبه خالف تُعرف! و«اللي في بالي بسويه». نظرت لابنتي. قربتها من شفتيّ لأطبع قبلة من القلب في فمها، ونظراتي تخاطبها: متى تكبرين. سأرعاك وأهتم بك وسأحسن تربيتك.

العجز في هذه الحياة هو العجز الداخلي، هو كلمة «لا أستطيع». فبرغم الصعوبات الحياتية، يظلّ الأمل في داخلي موجوداً. سأعيش. برغم الوحدة التي أحسّ بها بعد غياب زوجي، برغم صغر سني فلم أكن قد تجاوزت الثالثة والعشرين، وبرغم أسرتي البسيطة، سأعيش وأعيش! .

Email