الأذن اليسرى وقصص أبي الإنسان

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الأصوات تتعالى لحظة الضجيج، مما يحيلها لفوضى يصعب علي من خلالها تمييز ما يدور في أفق التخيل في قوقعة لا تتعدى مليمترات في أذني اليسرى، حيث أخبئ قصص والدي التي تتجاوز مدى الاستيعاب والفهم لقدراتي المتواضعة.

ذات صبح مليء بالشجن والخوف والقلق من آت دون كف أمٍّ تلامس الأيام بحنو، وترتفع بالدعاء كل صباح بالتفريج، غدونا أنا وأبي نمضي بلا هدى، وما زال يصب في أذني قصصاً لا تعد ولا تحصى عن زمن فاض عليهم بالعوز والفقر، واحتال أبي على زمانه بالحكمة والصبر فصار تاجراً بعد الغوص، وتعلم من قسوة الأيام كيف يكون عصامياً في تحوله الآني مع الوقت، وتعايشه مع الواقعين الفائت منه والآتي دون أن يقع في تيه التناقضات واحتمالات التفريط والضياع.

المفارقة أن أبي لم يكن فقط عصامياً؛ بل كان شجاعاً وكريماً معطاء، وكان يمد يده للقريب ويغيث المستضعف، وكان به من الخصال ما كان يحيرني، فأعود أختبئ حيث سندانتي والمطرقة في أذني، أتقوقع حيث القصص المثيرة التي كانت وما زالت تدندن هناك في أذني، فأعيد صياغتها للحن حب خالد لهذا الأب المناضل من أجل أن يعيش بكرامة قابضاً على قيمته كإنسان.

توقفنا طويلاً عند نخلة مقاومة أمام باب المنزل، كان قد تركها رغم المخالفات التي دفع ثمنها جراء أمر الإزالة الجبري، إلا أنه عاند في ذلك، وأصر على أن تبقى هذه الروح التي رافقتنا منذ أكثر من عشرين عاماً، تتجرع الحر معنا، وتقاسي البرد وحدها، وتمدنا بثمرها،، وأبي كعادته يُؤبرها ويبرها ويرعاها وينتظر حصادها، فصارت صديقة المنزل وصديقتنا، وجزءاً لا يتجزأ من هوية المكان وهويتنا.

سألني إن كنت قد تعلمت منه شيئاً، ونحن نقف دون النخلة وسعفها المتدلي يداعب رأسي فأعود للداخل أبحث عن كف أمي، وأتفكر فيما نسجَتُه من سعفها ذات ضحية تعلمني فيها كيف أُضفر سعفات النخلة المتدلية تلك، بعد أن أقطعها برفق، وكيف أصنع منها جمالاً يسكن معنا على المائدة وفي حوش المنزل، وقد تعمدت أن أصغي بشكل مختلف واضعة يدي على أذني اليسرى محاولة إبقاء الأصوات التي تعلو داخلها بعيداً عن الحوار بيننا هذا الصباح، فأجبت نعم أبي، نعم تعلمت. أن لا أتنازل عن شخصي، وهويتي، وأن أدافع عن قيمتي ومبدئي، وأن أقدم حيال ذلك ما استطعت.

تعلمت منك الكثير الذي يبقيني أنا رغم المتلون حولي، ورغم الظروف الشائكة التي تدخلنا في دوامة التأويل، التي تقوقعنا أكثر، وتطرق رؤوسنا بمطرقة الوقت تحيلنا إلى نسيج ممسوخ لا يعي ولا يفهم من الواقع شيئاً، ولا يبني لمستقبله غير الوهم الفاضي الذي يبعثر ما قد بنى أباؤنا.

مريبة فكرة القصص المُحاكة في ظلمات لا تشي إلا بالخوف والقلق والريبة، فمن يدري في تلك العتمة كيف تفسر الأمور، وكيف تفك شيفرات وألغاز بعض المؤشرات والأصوات، وكيف يعالج كل منا الأصوات المارة به وكيف يفسرها ووفق ماذا وتبعاً لأي مزاج أو خلفية فكرية. كم هي الحياة هنا تعج بالأفواه تعج بالحكايا، وكم هو الضجيج فاضح لبعض الأصوات التي لا تدري كم من تأويل تحمل عقول البشر لتلك الحكايا والأصوات، ومخيلتنا تبدأ في التنبؤ لبعض الأحاديث وتصوير مشهديتها في صور قد لا يمكن تحقيقها في الحياة.

... وأبي ما زال يسألني، وأنا في دوامة الإجابة المتعاظمة، ماذا تعلمت منك أيها الإنسان؟ وتغرقني أذني بفيوضها، فأذهب بعيداً حيث لا يمكن أن أكون إلا أنا، إبنة الحكاية التي لا تنتهي فصولها،ويد أبي تلازمني في طرقات منذ كنت على عتبات البيت أحبو وأمي تدعو الله أن يسلم خطواتي، وأبي يدعوني للتقدم حيث يمضي بي بعيدا لاكتشاف الحياة رغم العثرات.

* أديبة إماراتية

Email