غيّبه الموت وقصائده حية على ألسنة الرواة

رحيل الأبنودي.. أيقونة الشعر العامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

واجه كل يوم شائعات الموت بروح سمحة، لا يشوبها قلق أو خوف من الموت. يتحدى الموت كلما تكاثرت تلك الإشاعات، مؤكداً: »أنا بخير«، ولكن القدر يختار لعبد الرحمن الأبنودي يوم أمس؛ »الحادي والعشرين من أبريل« تاريخاً لوفاته، وهو التاريخ ذاته، الذي رحل فيه صديق رحلة كفاحه الشاعر صلاح جاهين، ليعد اليوم نفسه شاهداً على وفاة أيقونتين من أيقونات شعر العامية المصرية.

السيرة الهلالية

وُلد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في قرية أبنود، بمحافظة قنا في صعيد مصر، يوم الحادي عشر من أبريل عام 1938م، لأب كان يعمل مأذوناً شرعياً، وهو الشيخ محمود الأبنودي، واجتماعياً، تزوج شاعرنا من المذيعة المصرية نهال كمال، وله ابنتان »آية ونور«. شكلت السيرة الهلالية تكوينه الأول، وغازلت حواسه الشعرية، وذلك حينما استمع لها وقت انتقاله لمدينة قنا، فالأبنودي الذي بدأ حياته شاقياً جاء إلى القاهرة مع أصحابه، وأقربهم له كان »أمل دنقل«، الذي عاش معه ومع مجموعة من الشعراء الكبار في زمننا الآن، أمثال سيد حجاب، وشوقي حجاب، وعبد الرحمن خميس وغيرهم، وكان على لقاء دائم بجاهين الصحافة والشعر المصري الشاعر صلاح جاهين، كما كان على صلة وثيقة بالشيخ إمام، ورفيقه أحمد فؤاد نجم.

اتجاهات سياسية

آمن الأبنودي بالثورة المصرية عام 1952، وتغنى بها وكتب لها: »عدى النهار، أحلف بسماها وبترابها، ابنك بيقولك يا بطل«، وغيرها من الأغاني، التي جاءت على لسان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. دخل الأبنودي في بداياته معترك الاتجاهات السياسية، فآمن بالشيوعية فترة من الزمن حتى سجن عام 1966، واكتشف أنها لا تمثل الطريق الصحيح، الذي يحقق الإنسان به ذاته، واختار منفى اختيارياً له، كان مدينة لندن، التي أقام بها لمدة ثلاث سنوات، وعاد مرة أخرى إلى بلده مصر، ليكمل مشواره المكتوب. ارتبط الأبنودي بوطنه الأصلي الصعيد، في تجربة شديدة الخصوصية، وبلور هذا بشكل واضح في السيرة الهلالية، التي جمعها من شعراء الصعيد، وقدمها تدويناً شفهياً للتراث والفلكلور المصري الأصيل.

خريطة الشعر

رغم معاناته كثيراً في مشواره مع الشعر منذ انتقاله من موطنه »قنا« إلى العاصمة المصرية »القاهرة«، نجح الأبنودي في أن يصبح أشهر شعراء الشعر العامي في العالم العربي، وشهدت القصيدة العامية معه مراحل انتقالية مهمة في تاريخها. وفي سابقة هي الأولى من نوعها، حصل أول شاعر عامية مصري على جائزة الدولة التقديرية، وكانت من نصيب عبد الرحمن الأبنودي، الذي أسهم في تغيير خريطة الشعر، وأولويات الشعر في مصر، وذلك في عام 2001.

شعر غنائي

وبخلاف ذلك، يرى الكثير من النقاد أن الأبنودي نجح في أن يحجز له مكاناً عظيماً بين شعراء جيله، منذ اقتحم عالم الكتابة الشعرية الغنائية، فجاءت أغانيه متنوعة، حيث كتب لمحمد رشدي، مطرب الشعبيات الجميلة، عدداً من الأغاني لعل أشهرها: »عدوية، عرباوي، وسع للنور، تحت الشجر يا وهيبة«. ثم انتقل الأبنودي للرومانسية فكتب للصغيرة نجاة: »عيون القلب«، وغيرها من قصص الحب الجميلة. وبعدها، جمع معاناته وفرحه وتناقضاته الإنسانية في أغنيته الشهيرة »ساعات ساعات«، التي تغنت بها الشحرورة صباح. ولم ينفصل »الخال«، وهو اللقب الذي كان يُنادى به الأبنودي من قبل محبيه، عن الأجيال التي لحقته، فكتب للمطرب محمد منير أغاني عديدة، منها: »شوكولاته، كل الحاجات بتفكرني، من حبك مش بريء، برة الشبابيك، الليلة ديا، يونس، عزيزة، قلبي مايشبهنيش، يا حمام، يا رمان«. هذا، إلى جانب كتابة أغاني المسلسلات، مثل: »النديم، وذئاب الجبل«، كما كتب حوار وأغاني فيلمي » شيء من الخوف«، و»البريء«.

أحزان

يظل الأبنودي أيقونة الحياة والموت، خالداً لا محالة في جبين الشعر العامي العربي، ومخيلة القارئ العربي مهما مر الزمان، فـ»الخال« كما قال في قصيدة »أحزاني العادية« »قالوا يا عبد الرحمن.. وقدرت تموت.. وتفوت اللحم العاري المتهان.. في المدن اللي معداش منها ريحه إنسان.. أنا مت.. ومش منظور لي جواب.. متحصن بكتوف الأصحاب.. ولذلك فت.. عند التربة« ليوجه رسالة إلى جمهوره قبل أيام من وفاته، حيث قال »لقد أحببت هذا الوطن وأحببت ناسه فاسمحوا لي أن أحيي الشعب المصري، وأقول لهم لا تنسوني«.

 

وصية

لقي شاعر العامية المصرية عبدالرحمن الأبنودي ربه عن عمر يناهز السادسة والسبعين، بعد صراع مع المرض امتد لعدة سنوات بين مرض الرئة والجلطة، وقد شعر الأبنودي بدنو الأجل في أيامه الأخيرة، خاصة بعد اشتداد المرض عليه، وهو ما بدا واضحاً في آخر حوار أجري معه حينما كان ضيفًا على الإعلامية لميس الحديدي، حيث قال الأبنودى في ما يشبه الوصية الأخيرة له: »حياً أو ميتاً أنا عبدالرحمن الأبنودي، عِشت حياتي طفلًا، عايز أرحل من بره بره كده«.

كما أوصى خيراً بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووصفه بأنه »قطعة طيبة من عند الله في زمن سيئ وربنا يحسن أحواله وظروفه؛ لأنه حصل على منصب رئيس مصر وأحوالها ليست جميلة«، مردفًا »طول ما الجيش المصري موجود ستنا مصر موجودة، أما مقبرتي فقد أقمتها بعيداً ولا أريد أن ألتف بعلم أو ملاية«. واختتم الأبنودي وصيته »لقد أحببت هذا الوطن، وأحببت ناسه، فاسمحوا لي أن أحيي الشعب المصري وأقول لهم لا تنسوني«.

 

أدباء ومثقفون: شاعر جدد لغة الأغنية وبلاغيات الشعر المحكي

عبر عدد من الأدباء والكتاب والمثقفين عن بالغ حزنهم إزاء موت شاعر العامية المصرية عبد الرحمن الأبنودي. ونقلت »البيان« المشاعر الحزينة للأدباء والمثقفين عن الفقيد، حيث أجمعوا على أنه شاعر جدد لغة الأغنية وصور وبلاغيات الإبداع العامية، حيث قال الرئيس السابق للهيئة العامة لقصور الثقافة، الشاعر سعد عبد الرحمن: »إن الراحل عبد الرحمن الأبنودي هو أحد أعمدة شعر العامية في مصر، وبالطبع وفاته تمثل فقداناً كبيراً لأحد أعمدة الشعر العامي، سواء كان الوطني أو العاطفي، والموال والقصيدة. فالأبنودي عاش حياته كلها وهو عينه على الكثير من القضايا الوطنية في كتاباته، فكان مواكباً لكل الأحداث بداية من أول ديوان له، وحتى آخر قصائده«.

وأضاف لـ »البيان« أن للأبنودي كذلك دوره الكبير في جمع السيرة الهلالية وتقديمها للشعب المصري، وكل ما كتبه من أغنيات وطنية وعاطفية، فهو أحد الذين كان لهم دور في تطوير الأغنية المصرية، أيضاً له الكثير من الإبداعات في أغاني المسلسلات والأفلام، مؤكداً أن مصر برحيل الأبنودي فقدت كنزاً أدبياً وثقافياً وفنياً.

أيقونة الشعر

في حين رثا أمين المجلس الأعلى للصحافة، صلاح عيسى، وفاة الأبنودي، واصفاً إياه بـ »أيقونة الشعر العامي«، لما قدمه من إنجازات في ساحة الشعر المصري والعربي. وقال عيسى: »إن تاريخ الأبنودي ثري وغني بالجماليات الأدبية والشعرية، ويعد الشاعر العربي الوحيد الذي تم تقديره بصفته كشاعر«. مشيراً إلى أنه منذ حياتهم في الصبا بالستينيات وكان للأبنودي صوت وفكر ورغبة في التغيير، وهو ما نقله بشعره.

فيما أضاف قائلاً لـ »البيان«: »الأبنودي ساهم في تجديد لغة الأغنية وصور وبلاغيات الإبداع، فضلاً عن رسم ملامح للسيرة وتجديد في الصورة الصعيدية، إلى جانب تبنيه لإحياء التراث الشعبي من خلال تجميع السيرة الهلالية«. ولفت عيسى إلى أن الأبنودي ترك بصمته في قلوب وعقول ووجدان الأمة العربية، وعمره الذي امتد 77 عاماً لم يذهب سدى، فأعماله ستظل خالدة. كما أشار عيسى إلى ثقته في مصر بأنها »ولادة« وأن أبناءها قادرون على صياغة أبنودي جديد.

معزوفة راقية

أكد نقيب الصحفيين الأسبق، الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، لـ »البيان« أن الحياة الشعرية والغنائية المصرية سوف تفقد الكثير من قيمتها بوفاة الشاعر الأبنودي، فهو شاعر استطاع أن يعبر ببساطة شديدة عن مكنون الشخصية المصرية بأسلوب غاية في العذوبة، محولاً لغة الصعيد الخشنة إلى معزوفة موسيقية راقية، تزداد جمالاً بإلقاء الأبنودي لهذه القصائد العامية.

وأضاف مكرم أن تأثير الأبنودي في الحياة الشعرية والغنائية المصرية يكاد أن يكون موازياً لذلك التأثير الذي تركه كل من الشاعرين صلاح جاهين وأحمد شوقي، مشيراً إلى أن بصمته الشعرية تجعله من أهم الشعراء خلال الـ 100 عام الماضية.

حالة شعرية

قال الروائي إبراهيم عبد المجيد عن الأبنودي لـ»البيان«: »رغم قلة لقاءاتنا، إلا أن التواصل كان دائماً مستمراً فيما بيننا، حيث مكالمات الاطمئنان والتهنئة بالمناسبات والجوائز«. فيما لفت إلى أن الأبنودي كان حالة شعرية من الصعب تكرارها، نظراً لما بها من زخم وثراء شعري ولغوي وكذلك وطني، فضلاً عن أنه ساهم في تغيير ملامح الشعر العامي ووضع له أسساً جديدة.

وعن أسلوبه، أردف: »إن الأبنودي كان مجدداً بطبعه في أعماله، وهو ما ضمن له النجاح والاستمرارية، بل والرسوخ في وجدان الشعب العربي. كما أن التصاق أشعاره بمعنى الثورة كان كفيلاً بشعبيته لدى الشباب«. وأضاف الروائي إبراهيم عبد المجيد أيضاً أن الأبنودي أثرى الحياة الثقافية وسيظل في الذاكرة بأعماله التي ربت أجيالاً وأجيالاً، واستمرت على مدار عقود الزمن.

 

»القلـب الأخضرانـي«

من أشهر قصائد الأبنودي المغناة قصيدة »القلـب الأخضرانـي« التي غناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ:

أنا كل ما قول التوبه يا بوي

ترميني المقادير يا عين

وحشاني عيونه السودة يابوي

ومدوبني الحنين يا عين

متغرب والليالي يا بوي

مش سايباني في حالي يا عين

والرمش اللي مجرحني يا بوي

ضيعني وأنا كان مالي يا عين

يا رموش قتاله وجارحه يا بوي

وعيون نيمانة وسارحة ياعين

أديكي عمري بحاله يا بوي

واديني انتي الفرحة ياعين

القلب الأخضراني يا بوي

دبلت فيه الأماني يا عين

ولا قادر طول غيبتكو يا بوي

شرب من بحر تاني يا عين

 

قامة شعرية

نعت مؤسسة الرئاسة المصرية الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الذي وافته المنية أمس، وتقدمت لأسرته وذويه ومحبيه في مصر والوطن العربي بخالص التعازي والمواساة. وقال بيان الرئاسة »إن مصر والعالم العربي فقدا شاعراً عظيماً وقلماً أميناً ومواطناً غيوراً على وطنه وأمته العربية، أثرى شعر العامية من خلال أشعاره وأزجاله الوطنية التي عكست أصالة المواطن المصري وواقع البيئة المصرية، لاسيما في صعيد مصر، وعبرت عن الوطن في أفراحه وأحزانه، وفي انتصاراته وآلامه، وسيظل الفقيد وعطاؤه الممتد رمزًا وطنياً وعربياً نفخر بأنه من أبناء مصر الأوفياء الذين أضافوا إلى سجل إبداعها فصلاً ثرياً زاخراً بصدق المعاني وروعة الأسلوب«.

 

أيقونة

رغم الشهرة الكبيرة التي حظي بها الأبنودي عبر كتابته الأغاني المتنوعة، التي ملأت ساحة الإبداع، فإنه استمر في كتابة شعره العامي، ومن أشهر دواوينه الشعرية: »المشروع والممنوع، الموت على الأسفلت، جوابات، حراجي القط الأرض والعيال، الكتابة صمت الجرس، الزحمة«، كما قرر الأبنودي مشاريع عدة بنهاية حياته لم يكملها، حيث كان قرر مشاركة المطرب محمد منير بأوبريت كان بمناسبة افتتاح قناة السويس، إلا أن الخطط والقرارات لم تكن رادعة من الموت، ليلقى الشاعر ربه أمس.

وقد قررت أسرة الشاعر حمل جثمانه من مستشفى الجلاء العسكري، الذي كان يمكث به، من أجل إقامة دفنه وإقامة سرادق العزاء على روحه اليوم، بالإسماعيلية، التي قضى فيها أغلب سنوات حياته الأخيرة.

Email