"في رأسي دوّار" ألبوم صور صاخب عن الطبقية والتاريخ والحب

فرحاني يصور الأرواح العارية في مسلخ بالجزائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك أرواح هائمة في ذلك "المسلخ" الجزائري. ثمة، إلى جانب رقاب البقر المنحورة، رقاب أرواح تنزف، تئن، ويصفى بريقها، بطيئاً، بطيئاً، كما هي طريقة نطق الحروف عند "عامو" حين يقرر التحدث إلى الكاميرا، بعد أن ينجلي من وراء دخان سيجارته، في غرفة ضيقة، إضاءتها حمراء، وطلاء جدرانها مقشور.

في فيلم حسن فرحاني، "في رأسي.. دوّار"، الكثير عن الجزائر: أمس واليوم وغداً، من دون أن يضطر للخروج، طوال فيلمه الوثائقي، بعيداً عن مسلخ المدينة وشخصياته الغارقة في دوامات الحياة، التي تعبر عن مآزق وجودية وثقافية حادة، بالرغم من تبدي بساطة المكان والحبكة والشخصيات للوهلة الأولى.

نحن لسنا إزاء تسجيل آخر عن الافتتان بنحر الحيوانات، وتلك المهنة الشاقة الملونة بالأحمر، طوال الوقت، بل إزاء مخرج وكاتب، تمكن من أن يحول كل لقطة في هذا الفيلم، إلى لوحة فوتوغرافية، بوسعها أن تكون جدارية، حادة المعنى والتأثير.

وجوه شخصيات فرحاني، نافرة بخرائط الزمن والتجربة والمدينة والأحلام والأوهام، حتى، وإن كانت في عز فتوتها، كما وجه الشاب يوسف، أصغر موظفي المسلخ، الذي يحلم بأن يهاجر على متن "حراقة" (الوصف المغاربي لمراكب الهاربين إلى شواطئ أوروبا). في المقابل، تقف تلك الفتوة على تضاد مع وجه آخر هو الشيخ، الذي صرف أكثر عمره، على تنظيف مراحيض العمال في ذلك المكان، الذي قد تعتلي جدرانه رسم قلب غير مكتمل، أو صورة رئيس غير مكتملة الرأس.

وكأن زمن المسلخ، الذي بناه الفرنسي المستعمر قبل زمن بعيد (هو ذاته الفرنسي الذي يحلم يوسف بأن يفتح له حضنه كما احتضن من قبل لاعب كرة القدم زيدان، الذي كان ليتعفن لو بقي في الجزائر، على ما يأتي على لسان أحد الشخصيات في الفيلم).. هو زمن خاص ومغلق على القابعين في طرقاته المتشعبة، التي تتوّه، وكأنها "تسع وتسعون طريقاً متفرعاً من مستديرة، وأنا أبحث بينها عن طريقي ورقمه مائة، ولا أجد له وجوداً".

زمن ولد في رحم هذا المكان، الذي يقف على عتبته رجل يهذي بآيات القرآن والعقاب والأمن والتجسس، ويضع على وجهه، كما يليق بمجذوب متصوف، قناعاً من القماش، قبل أن يخلعه في مواجهة القمر: "هل تظن أن بوسعك أن تكون كما الروس والأميركيين وتطأ بقدميك هناك. ألا تعرف أنها النهاية. إنه العقاب".. هذا عن العتبة، لكن من في الداخل، وعلى الرغم من علامات التعقل البادية عليهم، إلا أن أرواحهم المنحورة تجعل أعماقهم تعتمل بالكثير من الصخب.

الصخب الطبقي
بالطبع، فإن طبقة من الكادحين الذين يزرفون عرقهم فوق بلاط الممرات المغسول بشلال الدماء النازف من الذبائح وسلخ جلودها، لن يعوزها استحضار الأغنياء، فيما تروي للكاميرا مقتطفات من سير حياتها. ورغم تلك القدرية التي يعتبر عنها رجال المسلخ، والمغلفة بالكثير من "الحمد لله"، فإن تلك السكينة المبالغ بها، إزاء الفروقات الطبقية الهائلة في جزائر اليوم، بين طبقة العمال وطبقة التجار أو أهل السلطة..

ذلك الهدوء هو بذاته العاكس الحقيقي لصخب ما يعتمل في دواخلهم، وحين يقول أحدهم:" أنا سعيد أكثر من الغني، هانئ البال، سيحيلنا المخرج بعد هذه اللقطة مباشرة إلى لقطة العجول المعلقة من أقدامها برؤوس مقلوبة تصفي داماءها على وقع سؤال من العامل: "الغني؟ هل تعرف معنى هذا؟ هل تعرف شكله". المأزق الطبقي ذلك يتغاضى عن الخوض فيه الجهاز الإعلامي الجزائري، ويسخر "عامو" من قدوم الصحافيين صباح العيد إلى مسلخ العاصمة من أجل تصوير مقابلات مع العمال: "يأتون فقط مرة في السنة. ولا يأبهون طوال الأيام التالية".

هناك أوضاع معيشية يجدر أن يأبه المرء لها في ذلك المسلخ، فمن فرش ووسادات الإسفنج التي يفرشها العمال على الأرض في غرف مناماتهم أو حراساتهم الضيقة، وصولاً إلى رواتبهم التي لا تعينهم على الحلم بالحب والزواج، وتصنع "دوارات" جديدة في رؤوسهم، كل منها يودي إلى تسع وتسعين طريقاً مرعباً.. وصولاً إلى أحلام هجرة الشباب وتأوهات ندم العجزة على ضياع العمر "كان يجدر بي أن أخطط لحياة أخرى أكثر سعادة لي ولعائلتي"، يقول الشيخ، منظف المراحيض، متكئاً على عصاه..

في ذلك كله، يرسل المخرج رسائل صاخبة في ثنايا المشاهد الهادئة، نوعاً ما، في فيلمه، الأمر الذي يجعلنا لا نصدق فعلاً ذلك الخطاب القدري الذي يمجد العدالة الإلهية في مسألة تقسيم "الأرزاق والسعادة".

الصخب التاريخي
المستعمر القديم حاضر في هذا المكان الذي بناه جنوده تحت سقف قرميدي ذات يوم في قلب العاصمة، لكي يكون خزان اللحوم الخاص بالمدينة وأسيادها، بشكل خاص (المستهلك الطبيعي للحوم في أزمنة القهر والاحتلال). وها هو يوسف مع صديقه "القبلي" (البربري باللفظ الجزائري) متسمران أمام شاشة تلفزيون صغير في غرفة وضيعة، يمرران الليل ونوبة الحراسة، بمشاهدة مسلسلات فرنسية، فيها نساء بقوام مشدودة، ورجال وسيمين ونظيفين: "انظر إليها بربك"، يحلم يوسف باللحظة التي يقع فيها بالحب مع المدينة البعيدة. مدينة المستعمر القديم.

في جلسة نقاش آخر تدور بين عمال حول الجزائر وأحلام الهجرة، ينبري أحدهم بالدفاع عن قرار لاعب كرة القدم زين الدين زيدان بمغادرة الجزائر قبل زمن، لكي يحظى بفرصة العمر: "ماذا كان ليفعل لو بقي هنا؟ هنا، لا شيء. هل تصدقون أنه حين كان فتياً وقبل هجرته خضع لامتحان تقييمي من قبل المدرب الجزائري الذي أفتى بكونه لا ينفع لأنه بطيء"!

هل كان على فرنسا التي حولت الجزائر في سنوات إلى "مسلخ" بشري وسفك جنودها الكثير من دماء الجزائريين أن تفكر أنه سيأتي اليوم الذي سيحلم فيه عمال "مسلخ البقر" على ترك ذبائحهم والالتحاق بأحلامها؟

الصخب الوجودي
تبحث شخصيات الفيلم عن الحب. تتوتر، يعلو صوتها في مرات، تغني وترقص في مرات أخرى. تزخ عرقاً أو يأكلها الخوف أو النعاس، لكنها دوماً تحلم بالحب. بالوليف. ها هو ذلك الرجل، المدعو "عامو"، يحتبس فرخ طائر في غرفته، بداعي.. الحب. "لقد جاء مع سفينة شحن إنجليزية إلى المرفأ القريب ذات يوم، ودخل إلى المسلخ، ومن وقتها، لا يريد العودة إلى الإنجليز. يحب الجزائر، سيجد عملاً لائقاً له، بعد أن يحصل على أوراق إقامته لدينا، ويصبح سعيداً".

في صورة معكوسة لعلاقة المقهور بحمله، يسبغ "عامو"، السجين أيضاً داخل جدران المسلخ، من دواخله على سجين آخر في غرفته، أقل منه حيلة. ينتبه المخرج أثناء التسجيل إلى أن الطائر ليس حراً كما ادعى صاحبه (أو سجانه) إذ لا حول له ولا حيلة، فرجله مربوطة: "لكنه مربوط، كيف يكون سعيداً". "صدقني هو سعيد، ولا يريد مغادرة هذا المكان".
في لقطة ذكية، ومع قدوم العيد، وسقوط كل أقنعة الشخصيات التي عبرت عما يعتمل في دواخلها، سيصور فرحاني الطائر وقد تحرر من أسره، واقفاً على السور، متأهباً للطيران، من دون أن نرى اللقطة الحاسمة.

في المسلخ، في الجزائر، يبدو الوجود بائساً، كتلك الابتسامات التي ترتسم على وجوه العمال، الذين فقد غالبيتهم جل أسنانه. كآبة أضفت اللغة البصرية للمخرج، من حيث اختيار الكادرات ونوعية الإضاءة، عليها جمالية، تجعل من واقعيتها ساحرة أو "سحرية" كما يقال في لغة النقد السينمائي.

لقطات كثيرة جسدت هذا السحر، مثل لقطة تصاعد الأبخرة من غلايات نقع الجلود، أو البهلوانيات التي يخوضها المجذوب (الدرويش) تحت ضوء القمر، أو في لقطة نهارية أخرى في الباحة الخارجية على أغصان أشجار يابسة، أو حتى لقطة تلك البقرة التي تنازع أنفاسها الأخيرة، فتخور وترفس، وهي تنزف، من دون أمل، بينما في الزاوية، يتصفح رجل جريدته بلا اكتراث، موجهاً ظهره لمشهد "المذبوحة" العادي في يومياته.
"لماذا تصنع هذه الأعمال وتحمل هذه المعدات؟"، يسأل مجذوب المسلخ المخرج: "هل تظن أنك بذلك سوف تدخل الجنة بزوجي الأحذية تلك التي بحوزتك"، يكمل ولسان حاله يقول: "في المسلخ.. كلنا عراة بأرواح حافية"!

Email