كانت قديماً مشهيات تهفو إليها الأفئدة

مقدمات الأغاني باتت قصيرة وبلا «سخصية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الماضي القريب كانت المقدمات الموسيقية بمثابة تأشيرة مرور تهيئ الوجدان للاستماع للأغنية الطربية ، فهي مشهيات تهفو إليها الأفئدة وتعيش مع المطرب احاسيسه كلمة ولحنا وصوتا ولما لا في زمن عرف الغناء فيه طريقه الى القلوب، أمّا اليوم فمقدمات الأغاني الموسيقية غريبة عنا ، شأنها شأن إيقاع الحياة المتسارع ، فهل منها مايذكرنا بالماضي الجميل ، أم هي تراجعت وتأثرت بإيقاع العصر والتقنيات المصاحبة لصناعة الأغنية العصرية؟ السطور التالية تحمل الإجابة ..

 

يتحسراستاذ الموسيقى وعازف الشلو احمد طه على حال المقدمات الموسيقية اليوم خصوصا في الاغنية المصرية ويصفها بالمتراجعة قياسا بحالها في عصر وعهد العمالقة ام كلثوم وعبد الحليم حافظ ، حيث كانت المقدمة في بعض اغنياتهم تتعدى النصف ساعة، فيما لا تتعدى اغاني اليوم العشر دقائق في افضل حالتها .

ويرى طه بعكس حال الاغنية المصرية اليوم، ان مقدمات الاغنية الخليجية والاماراتية قد تطورت كثيرا من بدايتها وفيها تناغم وتوزيع موسيقي جميل، حيث تمت الاستفادة من التقدم التقني في مجال الموسيقي وخاصة الغربية منها فجعل مقدمات اليوم افضل بكثير من ماضيها، وهو دليل عافية وتطور يمكن ان ينعكس ايجابا علي جسد تركيبة الاغنية الخليجية بالكامل اذا تمت مراعاة طبقات صوت المغني مع اللحن والتوزيع الموسيقي وهي معايير مهمة يجب مراعاتها قبل كتابة المقدمة الموسيقية للأغنية .

 

إيقاعات سريعة

ويصف الموزع الموسيقي مهند خضر المقدمات الموسيقية اليوم بانها عبارة عن ايقاعات سريعة وفي معظمها تكون ثوان معدودة لأن الأغنية زمنها من خمس الى عشر دقائق، وتفتقر الى الطرب الذي عرفت به المقدمات الكلاسيكية القديمة التي كان يعتمد في صياغتها على فرقة موسيقية متكاملة ويتنوع فيها التطريب بمقامات وفنون موسيقية مختلفة كالصولو والهارموني، عكس مقدمات العصر الحالي التي تعتمد اعتمادا كبيرا على التقنيات الحديثة فتكون ابعد من اللون الشرقي الذي عرفت به موسيقانا العربية .

 

تطور خليجي

 

وعن المقدمات الموسيقية للأغنية الخليجية والاماراتية على وجه التحديد يقول خضر ان الاغنية استفادت من التقنيات الموسيقية الحديثة فتطورت.

وبعضها استفاد من المدارس الموسيقية المصرية ذات الطابع الطربي القديم فأصبحت (ميكس) بين الطربي والايقاعات السريعة ، وخير نموذج لهذا التفرد والنجاح الفنان محمد عبده التي لاتزال مقدمات اغنياته تذكرنا بالطرب الاصيل وايام عبد الحليم حافظ ،كذلك اغنيات طلال المداح، وعبدالله الرويشد، ونوال الكويتية، وفي الامارات نجد ميحد حمد من رواد المقدمات الطربية وحافظ علي هذا النمط ونجح في الابتعاد عن الايقاعات السريعة السائدة وسط مطربي هذا الجيل.

 

طربيات الساهر

رعد البغدادي عازف عود من المغرمين بالموسيقى الكلاسيكية واغاني كاظم الساهر وعنها يقول هناك مقدمات موسيقية حفرت تاريخها بنفسها وشكلت وحدها أسطورة موسيقية سجلها تاريخ كاظم الغنائي وافتخر بها كاظم ليعلن عن نفسه رائدا من رواد الطرب الجميل، منها مقدمات اغاني : مقدمة ((كان صديقي)) هي الأروع حزنا واحساسا ومقدمة بعد الحب والتحديات ومدرسة الحب ..مقدمات موسيقية كثيرة ارهقت حواسنا واعطت الساهر كل ما يريد من اشباع موسيقي وفنون طربية اصيلة جعلته امتدادا لجيل عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب .

روح الطرب

مروان البلوشي ( اداري بمركز الشارقة لتعليم الموسيقى) يصف المقدمة الموسيقية بانها روح الاغنية الشرقية وهي بوابة الدخول لها خصوصا في الاغاني القديمة فهي بمثابة البلسم الشافي الذي يبعد عنا هموم الحياة اليومية وإرهاقها المتواصل ويؤكد ان مقدمات الجيل القديم لن تتكرر لكن هذا لا ينفي وجود العديد من الاشراقات الحديثة بعيدا عن النهج السريع واغاني ال ( تيك اواي ) على حد تعبيره .

 

أغداً ألقاك

يقول عازف الشلو محمد حسن ان المقدمة الموسيقية تعد مدخل الأغنية وان صلحت صلح حال الاغنية بالكامل وانجذب لها المستمع ويرى في كوكب الشرق ام كلثوم نموذجا للتطريب الاصيل عبر المقدمات الموسيقية الرائعة، ويعتبر مقدمة اغنية اغدا القاك للشاعر السوداني الهادي ادم اروع ما لحن محمد عبد الوهاب لأم كلثوم ، حيث يلاحظ فى هذه القصيدة كثرة الردود الموسيقية بين المقاطع ، لدرجة أن أم كلثوم كانت تؤدى جملة واحدة أو كلمة يعقبها رد من الفرقة الموسيقية .. وهذا يُحسب لعبد الوهاب حيث راعى السن المتقدمة لأم كلثوم وعدم استطاعتها غناء الشطرات الطويلة دون راحة ..واستعمل عبد الوهاب مقام العجم ( الميجور ) ليبدأ به لحنه .. وقدم مقدمة موسيقية طويلة .. حيث قامت أكثر من آلة موسيقية بالعزف المنفرد ( صولو ) .. وتنقل عبد الوهاب ( كعادته ) بين المقامات بطريقة سلسة ومتميزة فى نفس الوقت . هكذا كانت المقدمات في السابق اما اليوم فالأغنية بكاملها لا تتعدى ربع مقدمة من مقدمات ام كلثوم وعبد الحليم حافظ .

 

انت عمري مقدمة طربية خالدة

تعد مقدمة اغنية انت عمري لام كلثوم من اروع المقدمات الموسيقية في تاريخ الاغنية الشرقية وهي من تأليف الموسيقار محمد عبد الوهاب، و تبدأ المقدمة الهادئة بنقرات من صوت الكونتراباص الغليظ ، حيث يملأ القاعة بصداه المهيمن يرافقه على طول الدرب تلاعب من أنامل محمد عبده صالح على القانون ، حيث يبدأ بالصعود تدريجيا على مقام الكرد حتى يصل الذروة ويختمها بال(رش) وهي طريقة الأستاذ المعروفة والملحوظ سرعة اليدين والتفنن فيها وتدخل فرقة الكمان لتنهي الخاتمة بصوت يشبه الموسيقى الكلاسيكية الغربية ( وهنا تظهر عبقرية الأستاذ محمد عبد الوهاب في اقتباسه عن الموسيقى الغربية) .

بعدها تقف الفرقة ثانية واحدة تمتد في أذن السامع كأنها دهور تمضي لشدة الترقب لسماع الآتي بعد الخاتمة المشوقة وفي ثانية واحدة يبدأ النقر على الطبل والكونتراباص وتتعاظم ثورة الآلات من القانون والات النقر والدف تمهيدا للدخول الرئيسي للمقدمة حيث يبدأ عمر خورشيد بمداعبة القيثار ليعزف اللحن المحبوب للمقدمة ونشعر أن هنالك حوارا وكأنه عتاب يدور بين القيثار والكمان بحيث يتحدث القيثار بجملة وتجيبه فرقة الكمان بأخري وفي أصوات الكمانات الأنين ونبدأ بسماع صوت الكمان المشهور يخرج من بين أمواج الفرقة وهو كمان أحمد الحفناوي ليختتم الجملة ويعاد المقطع مرارا وتكرارا بتلاعب وفن في كل إعادة وتختتم الفرقة المقدمة بأصوات الكمان حيت تعود وتعود على المقطع الذي يجهز الست للغناء .

ونلاحظ السهولة والبساطة في تلحين المقدمة فكانت كلها ترتكز على مقام واحد وهو الكرد ومع ذلك العبقرية في النسج ومداعبة أذن السامع وتلهفه لسماع المقدمة مرة بعد مرة.

ويمكن أيضا ملاحظة مدى متانة المقدمة ، فهي تتحدث بصورة عامة عن فحوى الأغنية وليست فقط لحنا جميلا.

Email