دلالات «الفحولة» في المصطلح النقدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 19 رجب 1423 هـ الموافق 26 سبتمبر 2002 من غير المعقول ان تكون كلمة «الفحول» التي جعلت بعضا من عنوان كتاب من كتب النقد في العصر العباسي بدعة لا سابقة لها. وانما المعقول ان ابن سلام أخذ هذا المصطلح من كلام العرب، ورصع به جبين كتابه «طبقات فحول الشعراء». ومن غير المعقول كذلك ان تكون «الفحولة» قد وضعت اول ما وضعت لتكون مصطلحا ادبيا نقديا، له دلالاته الفنية، وانما المعقول ان يكون للفحول والفحولة معان حسية، ثم تجرد اللفظان من مادية المحسوس، وخلصا للفكر، وتمحضا للنقد. فما معنى الفحول والفحولة في اللغة؟ ثم مامعناهما في الأدب؟ وما الدلالات التي تنطويان عليها في المصطلح النقدي؟ الفحول في اللغة جمع فحل، والفحل: الذكر من كل حيوان، ورجل فحيل بيّن الفحولة، وفحل إبله فحلا كريما: اختاره لها. وكبش فحيل يشبه فحل الابل في نبله. وتفحل الرجل: تشبه بالفحل، أي: تكلف الفحولة في اللباس والمطعم، فخشنهما. ولما كان الفحل اقوى من الانثى فقد شبه الاعرابي ناقته بالفحل لقوتها. قال زهير بن ابي سلمى، وهو يصرف ناقته عن الاطلال الصماء البكماء: فلما رأيت أنها لا تجيبني نهضت الى وجناء كالفحل جلعد ومن يقرأ ما ذكرته كتب اللغة يخطر له ان النقاد الذين خلعوا سمة الفحولة على قوم من الشعراء، وضنوا بها على قوم ارادوا بالفحولة الجزالة أي: فخامة الأساليب، وقوة التراكيب، وغرابة الألفاظ، وبداوة الديباجة، لان الذكران اقوى من الاناث وأصلب. غير ان امعان النظر في كتب النقد يقودنا الى تصور آخر، وفهم آخر، والى دلالات ترتبط بأكثر من جانب من جوانب الشعر. أولى هذه الدلالات الاطالة لا الجزالة، وكثرة المطولات لا وفرة المقطعات. ونعني بالاطالة امتداد النفس في النظم حتى تغدو القصيدة كالمعلقة، ونعني بالكثرة ان ينظم الشاعر الفحل مجموعة من القصائد الطوال لا معلقة واحدة. والمحاورة بين الاصمعي وأحد سائليه توضح هذه الدلالة: «سألت الاصمعي عن عمرو بن كلثوم: أفحل هو؟ فقال: ليس بفحل. قلت: فعروة بن الورد؟ قال: شاعر كريم، وليس بفحل. قلت: فالحويدر؟ قال: لو كان قد قال خمس قصائد مثل قصيدته ـ يعني العينية ـ كان فحلا. قلت: فمعقر البارقي؟ قال: لو أتم خمسا أو ستا لكان فحلا». اذاً لم يكن عمرو بن كلثوم ـ وهو صاحب المعلقة المدوية الاصداء التي ألهت بني تغلب عن كل مكرمة ـ اقول: اذا لم يكن هذا الشاعر فحلا فمن الفحل؟ وما الفحولة؟ الفحل عند الاصمعي صاحب المطولات الجياد، أما عمرو فليس له كثير منها. والفحولة على هذا الاساس ليست سمة فنية من سمات الاسلوب، ولا خاصة من خصائص الشعر. وانما هي رقم وعدد، وأرقامها وأعدادها على وجهين: كثرة الابيات في القصيدة الواحدة، وكثرة الطوال لدى الشاعر الواحد. ولهذا قال الاصمعي في معقر بن حمار البارقي: لو أتم خمسا أو ستا لكان فحلا. ولهذا ايضا قال من فضل الاعشى، وقدمه على رجال طبقته: «هو أكثرهم عروضا، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة وأكثرهم مدحا وهجاء وفخرا ووصفا». وعند العبارة الاخيرة يحسن بنا ان نتوقف فهل كثرة المدح والهجاء من الفحولة؟ الحق ان البراعة في المدح والهجاء خاصة لا في اغراض الشعر عامة هي ثانية السمات في الفحولة، ولهذا جعلت الدلالة الثانية على فحولة الشاعر. قال المرزباني: «اجمع العلماء بالشعر على ان الشعر وضع على اربعة اركان: مدح رافع، او هجاء واضع، أو تشبيه مصيب، او فخر سامق، وهذا كله مجموع في جرير والفرزدق والاخطل. فأما ذو الرمة فما أحسن قط ان يمدح، ولا أحسن ان يهجو، ولا أحسن ان يفخر، يقع في هذا كله دونا، وانما يحسن التشبيه، فهو ربع شاعر». ويفهم من كلام النقاد ان المدح الصادق مقدم على اغراض الشعر كلها، لما فيه من تخليد للمآثر وتمجيد للمفاخر، وذكر لأيام العرب. واذا كان العصر الحاضر ينظر الى المدح بعين الزراية، فليعلم المزدرون ان نصف معاني المدح والكثرة الغالبة من صوره، والمشاعر النبيلة منه تحولت الى الشعر الوطني او الشعر القومي. وليعلموا كذلك ان حظ الممدوح منه فوق حظ المادح، وأن الرابح الحقيقي في سوق الادب هو التراث العربي والحق العربي، اذ استطاع هذا الغرض ان يرسخ القيم والمثل والفضائل، وأن يغذو بمعانيه ومشاعره وأهدافه السامية شخصيتنا العربية، وحسبك ان تذكر ان سيفيات المتنبي، وروميات ابي فراس، وبائية ابي تمام في عمورية من المدح الذي خلع على هؤلاء الشعراء العظماء صفة الفحولة. ومما يدلك على ان المدح الصادق لم يكن موضع ازدراء ما رواه صاحب الاغاني عن عمر بن الخطاب وابن زهير. جاء في الاغاني: «قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم اباك؟ قال: ابلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها ابوك هرما لم يبلها الدهر». وكلمة الفاروق تعني ان الاقدمين رأوا ان مدح زهير من نمط رفيع، ولا تشوبه شائبة من انتهاز وابتزاز ولا تخالطه اطماع، ولا يرمي الى انتفاع. ولولا هذا النظر الثاقب لما جعل زهير في الطبقة الاولى من فحول الشعراء ولرمي بما رمي به الاعشى من التكسب بالشعر. وثالثة الدلالات التي ينطوي عليها مصطلح الفحولة، الجودة الفنية، والموهبة الصناع، والقدرة على تصوير الجمال بأسلوب ممتع مبدع. وهذه القدرة منحت ذا الرمة عنصرا من اربعة العناصر الجوهرية في الفحولة، ولهذا وصفه النقاد القدماء بأنه ربع شاعر. ولم يكن عندهم جديرا بالفحولة كلها، لانه «كان صاحب تشبيب بالنساء، وأوصاف وبكاء على الديار، فإذا صار الى المدح والهجاء وأعدى، ولم يصنع شيئا». وهذه الدلالة غير دقيقة، فإن براعة هذا الشاعر في تصوير الجمال جمال المرأة وجمال الطبيعة البدوية جعلته مضرب الامثال حتى قال ابو تمام في بائيته المشهورة: ما ربع مية معمورا يطيف به غيلان ابهى ربى من ربعها الخرب ومما يقوي هذه الدلالة ان امرأ القيس جعل في الطبقة الاولى من الفحول وهو زير نساء، لا مادح ملوك فلماذا أخر ذو الرمة، وقدم امرؤ القيس، وجعل رأس طبقته من الذين مدحوا وهجوا، وفخروا ورثوا، وفضل على الاعشى، والاعشى ابرع الجاهليين في المدح؟ لعل تقديمه يعود الى انه مبتدع لا متبع، ومبتكر يجدد، لا مبتديء يقلد. وعلى هذه الحقيقة وقف المرزباني حينماقال: «احتج لامريء القيس من يقدمه فقال... سبق العرب الى اشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعه فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي. وقيد الأوابد واجاد في التشبيه». فهل لك ان تستنبط من كلام المرزباني ان الفحولة التي ظفر بها امرؤ القيس لم يظفر بها للاجادة في المدح والهجاء، او للاطالة في القصائد وانما ظفر بها لانه استطاع ان يبتكر مجموعة من المعاني والصور، أبرزها انه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الاحبة والديار في شطر واحد حينما قال: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل وأنه بزّ أقرانه في صور ابتكرها، ثم تداولها الشعراء؟ لو كان الامر كذلك لكان ذو الرمة جديرا بمثل هذا الشرف الذي خلعه النقاد على امريء القيس، فإن لذي الرمة في تصوير الصحراء نباتها وحيوانها، وفلواتها وكثبانها ما لم يسبقه اليه سابق، ولم يبلغ شأوه لاحق. ولو قرنت ما قيل في ذي الرمة على سبيل القدح بما قيل في امريء القيس على سبيل المدح لوجدت الشاعرين يلتقيان في التشبيب بالنساء، وفي البكاء على الديار، وفي رقة النسيب، ثم يفترقان في أعين النقاد. فلماذا قربت هذه العناصر امرأ القيس من الفحولة، وأبعدت ذا الرمة عنها؟ لو قيل في الاجابة عن هذا السؤال: ان امرأ القيس ابتدع وان ذا الرمة اتبع، والمتبع دون المبتدع لكان لك ان تقول: ان الاتباع ـ ولا سيما اتباع امريء القيس ـ جعل الدلالة الرابعة التي ينطوي عليها مصطلح الفحولة، وبمعارضة امريء القيس ارتقى بعض المقلين ذروة الفحولة. قال القدماء: «وفحول الشعراء هم الذين غلبوا بالهجاء من هاجاهم مثل جرير والفرزدق وأشباههما. وكذلك كل من عارض شاعرا فغلب عليه مثل علقمة بن عبدة، وكان يسمى علقمة الفحل، لانه عارض امرأ القيس في قصيدته التي يقول في اولها: خليلي مرّا بي على أم جندب بقوله في قصيدته: ذهبت من الهجران في غير مذهب». نخلص مما عرضنا الى ان مصطلح الفحولة في النقد انطوى على اربع دلالات، وهي الاطالة لا الجزالة، واجادة المدح والهجاء، والابداع في التفكير والتصوير، ومعارضة الفحول. بقلم: د. غازي مختار طليمات

Email