قصة الأسبوع

أنانية الأب ضيعت الأبناء والمحكمة أعادتهم مواطنين

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرف وكيل النيابة على المتهم الذي أمامه، تذكره عندما مثل قبل سنوات مع شقيقيه أمامه، في ذلك اليوم لم يستطع وكيل النيابة تصديق أن الأطفال الثلاثة الماثلين أمامه بتهمة السرقة من مواطني الدولة، فالأشقاء الثلاثة لا يتقنون العربية ولا يعرفون شيئاً عن دينهم أو عادات مجتمعهم، ولم يدخل أي منهم مدرسة أو يتعلم حرفاً، مع أنهم تربوا في بلدهم لم يغادروها منذ ولدوا ولو ليوم واحد، والأغرب أن أكبرهم فقط لديه وجود في الأوراق الرسمية، ولكنه كإخوته لا يحمل بطاقة صحية أو هوية أو جواز سفر.

نظر وكيل النيابة إلى الأطفال الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والحادية عشرة، وعرف أن واجبه كإنسان وكمواطن أن لا يتوقف عند حدود مهامه الوظيفية، عليه أن يفتح أبواب الأمل لهؤلاء الشباب الصغار نحو حياة أفضل تشبه ما ينعم به أقرانهم من أبناء الدولة.

جاءت التحريات التي أمر بها وكيل النيابة لتوضح الصورة، وكما توقع كان الفتية ضحية أب غارق بملذاته، وأم غريبة تحاول أن تجد لأبنائها الحد الأدنى من مقومات الحياة. أما القصة فبدأت عندما غادر الأب الذي لم ينل أي قسط من التعليم مسقط رأسه في إحدى المناطق النامية، وانتقل للعمل في أبوظبي. كان هناك فرق كبير بين حياته الجديدة في العاصمة والحياة في قريته، ولم يستطع بتعليمه البسيط، وهو في ريعان الشباب في ذلك الوقت، أن يتأقلم بشكل إيجابي، وبالتدريج وجد نفسه وقد غرق في الملذات وأدمنها.

وفي حياته الجديدة تعرف على أم أولاده، الريفية البسيطة القادمة من إحدى دول شرق آسيا، ونتج عن هذه العلاقة المحرمة حملًا، ولأنه لم يكن ينوي الاقتران بها، طالبها بالإجهاض مراراً، ولكنها رفضت، ربما اعتبرت حملها فرصة لتبقى في الدولة كزوجة مواطن وأم مواطن وهي التي تقيم فيها بصورة غير شرعية، وبالنهاية وبعد أن هددت بإبلاغ الشرطة وتوسط البعض، اقترن بها رسمياً، وعندما أنجبت الطفل الأول قام بتسجيله باسمه، ثم غادرهم لا يسأل عنها ولا عن ولده.

لم تجد المرأة سبيلاً للحياة الطبيعية مع زوجها، ولم تتمكن من إقناعه برعاية ولده، فلجأت إلى المحكمة التي ألزمته بنفقات زوجته وابنه، وبدأت تقتطع نفقاتهما وسكنهما من راتبه. ولكن الحال لم يبق على ما هو عليه، فقد صار الرجل يغرق أكثر فأكثر في المسكرات والملذات، حتى ازدادت المشكلات حوله، وتعددت القضايا الجزائية التي تورط فيها، إلى أن قررت جهة عمله فصله، عند ذلك لم يجد ملاذاً إلا زوجته، فذهب وأقام لديها في السكن المشترك بين أبناء جنسيتها. لم يكن ذلك أمراً جيداً للزوجة فقد خسرت النفقة التي كان يعطيها إياها وأصبحت ملزمة بالإنفاق عليه، ولم تجد سوى العمل كخادمة بنظام الساعات والأكثر من ذلك فقد أنجبت له طفلين آخرين، لكن والدهم لم يتكبد حتى عناء تسجيلهم لدى الجهات الرسمية.

كبر الصغار في وطنهم ولكن في مجتمع لا يشبه أبداً ما يجب أن يتربوا عليه، فكل من حولهم لا ينتمون إلى دينهم أو جنسيتهم أو حتى عرقهم، فتعلموا لغة غير لغتهم وديناً غير دينهم وأسلوب حياة مختلفاً، ولأن والدهم لا يشعر حتى بوجودهم، وأمهم تلهث وراء لقمة تسد بها رمقهم، فلم يجدوا من يفكر بضرورة توفير التعليم أو العلاج لهم، فقط استخدموهم للحصول على المعونات من الجهات الخيرية.

أكثر من عشر سنوات قضاها الفتية في تلك الحياة، قبل أن تتمكن الأم من الحصول على منحة سكن لزوجها، فانتقلت الأسرة إلى المنزل الجديد الذي كان محاطاً بعائلات إماراتية بكل ما تحمله من قيم وعادات إسلامية وعربية، فشعر الصغار كأنهم انتقلوا من عالم إلى عالم آخر، فهم لا يتقنون العربية أو يعرفوا شيئاً عن الحياة التي يعيشها أقرانهم في الحي، فقط هم افتتنوا بالرفاهية التي تحيط بأبناء جيرانهم، واستولت عليهم الرغبة في أن يعيشوا نفس هذه الحياة. ولم يجدوا لذلك سبيلاً سوى السرقة، فاتفقوا مع أصدقائهم ممن كانوا يعيشون بينهم، وكونوا عصابة لسرقة محتويات منازل وسيارات أهل الحي الجديد.

تكررت السرقات وتعددت في الحي نفسه، وركزت الجهات الأمنية جهودها للحد منها، فكان أن قبضت على الأشقاء الثلاثة مع أصدقائهم، وفي البداية ظن الجميع أنهم من نفس الجنسية الآسيوية لباقي أفراد العصابة، ولكن المفاجأة أنهم كانوا مواطنين، وإن لم يعرفوا لغة أهلهم، وإن لم يتعلموا آية واحدة من كتابهم.

كان وكيل النيابة يعرف أن عمله في نيابة الأسرة مختلف عن بقية النيابات، فهو يعمل مع عائلات وأطفال، وأن واجبه في مثل هذه الحالات كممثل لمصلحة المجتمع أن يعيد هؤلاء الصغار إلى مجتمعهم، فهم ضحية قبل أن يكونوا متهمين. وبدأت الجهود تتضافر نحو استخراج أوراق رسمية للفتية وإثبات نسبهم لأهليهم، وكذلك تعديل وضع أمهم التي اتضح أنها مقيمة غير شرعية في الدولة منذ 25 عاماً. ثم جهدت النيابة لتوضيح حالة الأطفال للمحكمة والمطالبة أن يكون الحكم بالإيداع حتى يمكن إعادة تأهيلهم وتربيتهم، وبالفعل تجاوبت المحكمة مع طلب نيابة الأسرة وصدر الحكم بإيداعهم في مركز الرعاية المتخصص.

وفي المركز تم ختان الأطفال الثلاثة، وتعليمهم لغتهم ومبادئ دينهم، وكانت نيابة الأسرة حريصة على إبقائهم فترة طويلة في المركز بما يتيح لها إعادة تأهيلهم، مع إعطائهم الحافز تلو الآخر لحفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة، ولكن في النهاية خرج الشبان من المركز، ولكن ليس كما دخلوا، أو على الأقل اثنان منهم تغيرت حياتهما تماماً، فقاموا بالتسجيل في التعليم المسائي وحصلوا على فرص عمل، وأصبحوا من المعروفين بالالتزام الديني والأخلاقي.

فقط الأخ الأكبر تغير إلى الأسوأ، أصبحت حياته تسير لتكون كحياة والده، خمر ونساء وملذات، وليس ذلك فقط بل إنه تدرج في الجريمة، وها هو يقف أمام وكيل النيابة كمتهم في قضية السرقة بالإكراه، وتعاطي المخدرات، وهو معترف بما نسب إليه.

أما أشقاؤه فلا زالوا وأمهم تحت رعاية وكيل النيابة، يلجؤون إليه كلما اختلط عليهم الأمر أو خافوا أن يضلوا الطريق، وكلما اعتدى عليهم والدهم بالضرب لأخذ أموالهم واستعمالها في ملذاته. ولا يزال وكيل النيابة ملتزماً بما وعد به من التزام بأن يعبر بهذه العائلة نحو بر الأمان.

 

تنشر "البيان" صباح كل أحد بالتعاون مع دائرة القضاء بأبوظبي قصة من أروقة القضاء بهدف نشر التوعية

Email