محمد بن راشد رجل الدولة وفارس الإنجاز

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل سبعة عشر عاماً من عمر الوطن المديد، وتحديداً في يناير عام 2006م، تسلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مقاليد الحكم في إمارة دبي بعد وفاة شقيقه المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، رحمه الله، وعلى الرغم من الإحساس بفداحة الخسارة التي شعر بها صاحب السمو لهذا الرحيل المفاجئ لشقيقه وعضيده إلا أن الإحساس الأكبر كان هو الشعور بحجم المسؤولية الضخمة التي أصبحت الآن على كتفه بعد رحيل المؤسسين الكبار:

راشد وزايد، رحمهما الله، على وجه الخصوص، وهو ما صرح به صاحب السمو وهو يقص هذه اللحظات الصعبة في سيرته الذاتية (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً)، حيث عقد القصة الثامنة والأربعين للحديث عن هذه المرحلة الحاسمة من مسيرة صاحب السمو السياسية والإدارية تحت عنوان «رئيساً للوزراء حاكماً لدبي» مُمهداً لذلك بالحديث عن انخراطه المبكر في منظومة الحكم في دبي أولاً منذ العام 1968، ثم في منظومة الاتحاد بعد قيامه عام 1971، لتستمر هذه المسيرة المظفرة لصاحب السمو يحدوها عبارة واحدة تختصر كل الرؤى والأمنيات والأهداف هي قوله:

«وضعتُ كل جهدي في خدمة بلدي وقادتي ووطني عبر السنين، لم أنافس على كرسي ولم أتطلع لرئاسة، ورفضت ولاية العهد أربع مرات، وكنت عبر سنوات خدمتي السابقة طموحاً من غير طمع في منصب، متطلعاً للأفضل لبلدي دون هضم حق غيري»، ليلخص صاحب السمو بهذه الجملة المتماسكة جوهر الرؤية العملية والأخلاقية التي سيسير عليها في مسؤولياته الجديدة تجاه وطنه الكبير أولاً، وتجاه مدينته التي يجمعه بها علاقة عشق خالدة عبر عنها بعبارة مُعطرة بعطر الفروسية والوفاء والصدق حين قال: «أبي والخيل ودبي هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي، أبي والخيل ودبي هي ذاكرتي التي ستبقى معي حتى النهاية».

وكانت دبي على موعد مع فارسها وعاشقها الذي يعرف قدرها ويحفظ تاريخها، ويسعى في رفعة شأنها، وما هو إلا أن امتطى صاحب السمو صهوة جواد العمل والإنجاز حتى انخرط في أكبر عملية بناء وتحديث لمدينة دبي جعلت منها واحدة من أكثر المدن العالمية شهرة وتقدماً وجاذبية، ونقطة جذب اقتصادي متميزة لتكون بذلك خير شاهد على حجم الجهود الضخمة التي بذلها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في سبيل إنجاز المستحيل لتكون دبي وجهة عالمية تحتل مكاناً فريداً في خارطة التجارة العالمية، وتكون قادرة بعد ستة عشر عاماً فقط على احتضان أكبر حدث عالمي على مستوى الاقتصاد (إكسبو 2020 دبي).

كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مُدركاً بأن هذه المرحلة الجديدة من مسيرة الوطن عموماً ومدينة دبي على وجه الخصوص تحتاج إلى تجديد الوعي بمعنى العمل والخطة والإنجاز، لذلك كان من أوائل ما قام به التخلص من فكرة اللجان وترسيخ فكرة فرق العمل التي يسميها صاحب السمو مغاوير التنمية، ولا تعني فكرة فريق العمل الاختيار النخبوي للصف الأول من الوزراء والوكلاء بل تتغلغل هذه الفكرة في منظور صاحب السمو حتى تشمل جميع أبناء الوطن المنخرطين في صناعة الحياة، وهو ما عبر عنه صاحب السمو بعبارة في غاية العمق والروعة الجاذبية حين قال في كتابه: «رؤيتي: التحديات في سباق المستقبل»:

«كلنا جنود في جيش التنمية وبحسب الرتب وتوزيع المهام الذي نجده في الجيوش، فرق العمل هي مغاوير التنمية ووظيفتها تنفيذ المهمات الحرجة التي تضمن تحقيق النصر في حرب التنمية»، لتكون معركة الوطن الكبرى في منظور صاحب السمو هي معركة بناء الوطن، والارتقاء به إنساناً وعمراناً.

ولكي لا تبقى هذه الرؤى في عِداد الأحلام والأمنيات، قام صاحب السمو بعقد خلوة في الصحراء لمناقشة الأفكار الكبرى في مسيرة البناء والإعمار، وبعد مرور عام على توليه مقاليد الحكم: رئيساً للوزراء وحاكماً لدبي، عقد فعالية كبرى بحضور طيب الذكرى المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، وحضور أصحاب السمو حكام الإمارات الكرام، وسمو أولياء العهود، والوزراء والمسؤولين، وأعلن استراتيجية دولة الإمارات القادمة التي لخصها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بقوله: «كان الهدف أن تكون الإمارات الأولى عالمياً في محاور العمل الحكومي مع نهاية العام 2021 اليوبيل الذهبي لإنشاء الدولة»، ولاقت الاستراتيجية رضا صاحب السمو رئيس الدولة وبقية الحكام.

انطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في مسيرة البناء والإعمار والتنمية وهو يحمل إرثاً ثميناً من الخبرات والتجارب من خلال العمل المباشر مع بُناة الوطن الأوائل ولا سيما الشيخان الكبيران: زايد بن سلطان رئيس الدولة، وراشد بن سعيد باني دبي، طيب الله ثراهما، وكان يستلهم على نحو خاص مقولة للشيخ زايد ذكرها في سيرته الذاتية خلاصتها:

«الإنسان يفنى، والمال يفنى، ويبقى الوطن والأعمال التي قدمناها من أجل الوطن» لتكون هذه المقولة الجليلة بمثابة السراج الذي يضيء الطريق أمام صاحب السمو في سعيه الدؤوب لخدمة هذا الوطن الغالي الذي يستحق كل عطاء وتضحية، ولتظل هذه الكلمات عميقة الصدى في قلبه ويعيد صياغتها على نحوٍ آخر حين قال في افتتاح سيرته الذاتية (قصتي) مستلهماً روح زايد وراشد، رحمهما الله، «سيقولون بعد زمن طويل: هنا كانوا، هنا عملوا، هنا أنجزوا، هنا أطلقوا ذلك المشروع وهنا احتفلوا بإتمامه، من هنا بدأوا، وهناك وصلوا في سنوات معدودات»، ولأن تنفيذ الأحلام والأهداف الكبرى قد يكون عند بعض الناس من المستحيل.

فقد بدد صاحب السمو قبل كل شيء فكرة المستحيل من فكر أبناء الوطن، وجعلها خارج قاموسهم، وقال كلمته البديعة الخالدة: «إن أكبر عائق أمام تحدي المستحيل هو العقول التي تؤمن بوجوده»، وكان هاجسه الأكبر هو زرع قيم الشجاعة والفروسية في عقول الشباب وقلوبهم حين قال: «أكبر هدية يمكن أن تمنحها للأجيال القادمة هي غرس الشجاعة في نفوسهم لسبر أغوارٍ لم يسبقها إليها أحد، والوصول لقممٍ لم يفكر بها أحد»، غارساً في قلب كل واحد من أبناء هذا الوطن شعوراً عميقاً من الثقة بالنفس، وأن كل منجز سنحققه هو استحقاق لنا وليس مِنةً من أحد.

هذا هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: قائد صاحب رؤية، وفارس جسور مِقدام، لا يدفع بالجنود إلى المعركة وينظر إليهم من بعيد، بل يقودهم ويطأ معهم بحوافر خيله قلب الصعوبات، ويعلمهم كيف يجتازون الصعوبات بالصبر والحكمة والإرادة القوية، والشعور العميق بالثقة بالنفس، وقبل ذلك كله وبعده التسلح بسلاح الإيمان والتوكل.

كان صاحب السمو بحكم الإرث الذي تلقاه في مدارس الحياة والجامعة عميق الإيمان بأن بناء الإنسان هو الخطوة الضرورية الأولى التي يجب أن تتقدم كل الخطوات، وأن تحقيق الذات الحضارية لا يمكن تشييده من خلال إنسان يعيش خارج ثقافة العصر ومعارفه الحديثة.

لذلك ركز بشكل استثنائي على تطوير منظومة العلم والمعرفة والمؤسسات الأكاديمية الكفيلة بصقل الشخصية وتنمية المواهب واستخراج الطاقات الكامنة في شباب الوطن وشاباته، وتم الربط بين التعليم والتنمية من خلال هيئة المعرفة والتنمية البشرية التي تشرف على مسار التعليم في دبي ابتداء من المدارس الحكومية وانتهاء بمؤسسات التعليم العالي واضعة نُصب عينيها تحقيق أرقى معايير التعليم الحديث ضمن مناهج متنوعة تُلبي حاجات التنوع الرائع الذي تتميز به دبي كمدينة عالمية تجتمع فيها جنسيات كثيرة، وتسهم مجتمعة في الارتقاء بها في شتى مسارات الحياة.

فكان التعليم واحداً من أهم المسارات التي عُني بها صاحب السمو في عهده الميمون، ولم تتوقف حدود الاهتمام عند هذه المراحل التعليمية، بل فتح الباب واسعاً أمام الراغبين في الانخراط في مسارات تعليمية متميزة جداً لا سيما في علوم هندسة الفضاء، حيث تم إنشاء مركز محمد بن راشد للفضاء عام 2006 كجهة تحتضن برنامج الإمارات الوطني للفضاء، ويعمل على تطوير القدرات العلمية والخبرات المتميزة في هذا السياق.

حيث حقق إنجازات تشهد بكفاءته مثل إرسال مسبار الأمل للدخول في مدار المريخ عام 2020، ومستكشف القمر «راشد» الذي ستكون مهمته استكشاف كافة أرجاء سطح القمر من مواقع لم يسبق دراستها في البحوث الفضائية السابقة، فضلاً عن إرسال هزاع المنصوري أول رائد فضاء عربي للمحطة الفضائية الدولية، وهذا إنجاز غير مسبوق للدولة، كما تحتضن الإمارة فروعاً متعددة للعديد من الجامعات العالمية المرموقة، مما يدل على حجم الثقة بها، وبقدرتها على توفير البنية المناسبة للراغبين في الدراسة في هذه الجامعات المتميزة في مستواها الأكاديمي.

وفي موازاة هذا التعليم الرسمي، كان لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد اليد الطُولى في إعادة الاعتبار لقيمة المعرفة وقيمة القراءة ليس في دبي وحدها ولا في الإمارات، بل على مستوى الوطن العربي كله من خلال مبادرة نادرة حققت حضوراً متميزاً هي مبادرة «تحدي القراءة العربي»، التي هي أكبر مشروع عربي أطلقه صاحب السمو لتشجيع القراءة بين الشباب العربي والذي افتتحه صاحب السمو بعبارة في غاية العمق والروعة والبساطة يقول فيها:

«أول كتاب يمسكه الطلاب يكتب أول سطر في حياتهم»، وهو التحدي الذي حقق انتشاراً جماهيرياً غير مسبوق تجلى في الملايين التي تتابعه وتنخرط في فعالياته، ليظل اسم صاحب السمو منقوشاً بأحرف النور والصفاء في قلوب هذه الناشئة الغضة التي تجد في دعم صاحب السمو خير مُعين لها على استقبال الحياة بإرادة قوية وعزيمة لا تلين، ومن نظر إلى لمعة السعادة في عيني صاحب السمو وهو يتابع هذا المشروع الكبير، ويحتفل مع أبنائه العرب بهذا المنجز، عرف أن هذا القائد لا يعمل على اللحظة الحاضرة بل رهانه الأكبر على المستقبل وتباشيره الواعدة.

إن هذا الوعي المستنير بقيمة الثقافة والعلم والمعرفة في صناعة الإنسان كان مدعوماً بوعي مُوازٍ من الإدراك النافذ لأهمية الاقتصاد في صنع الحياة الكريمة للإنسان والوطن.

فأطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد العجلة الهادرة لصنع الاقتصاد القوي المتين للوطن كله، وكانت رؤيته تقوم على أن النفط يجب ألا يكون سلعتنا الوحيدة في مواجهة الحياة وحماية الأجيال، فحققت الدولة منجزاً اقتصادياً هو أشبه شيء بالمستحيل، وانعكس ذلك على البنية التحتية للدولة، حيث أصبحت في مقدمة الدول المتحضرة، فضلاً عن توفير أرقى أنماط العيش الكريم لأبناء الوطن، سياسة موروثة عن الباني الأول طيب الذكرى الشيخ زايد، رحمه الله، الذي كان ينظر إلى أبناء الوطن.

كما ينظر إلى عياله فكانوا «عيال زايد» وما أجمله من اسم يحمل في طياته أرقى أنواع المحبة والصدق والمسؤولية، وتعبيراً عن هذه الرعاية الحثيثة لأبناء الوطن اقتصادياً واجتماعياً وحضارياً، كان جواز السفر الإماراتي هو الأقوى على مستوى العالم بسبب ما توفر لحامليه من كرامة الشخصية وعراقة الهوية.

إن هذه الفروسية الإدارية التي يتمتع بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هي وجه آخر للفروسية الحقيقية في عالم الخيل، فالأجيال القادمة ستظل مشحونة القلب والذاكرة بالمنجز الاستثنائي الذي حققته دبي حين أصبحت الحاضن العالمي لكأس العالم في سباق الخيول، ولم يكن هذا الاحتضان بلا إنجاز بل إن خيول صاحب السمو وبعض فرسان الوطن تُحقق من النتائج المتقدمة جداً ما يجعل هذا الوطن فخوراً بكل ما أنجزه صاحب السمو وفريق عمله في هذا السياق المتفرد، الذي يعكس شخصية دبي التي تجمع على نحو فريد بين الأصالة والمعاصرة بما يشهد بحيويتها وجذورها العريقة الممتدة في طيات الأرض الأصيلة.

ومنذ طفولته المبكرة، وحين كان يشاهد منجزات الأمم المتحضرة، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مسكوناً بهاجس التفوق على هذه الأمم، وبناء دولة عصرية لا تقل إطلاقاً عن الدول المتقدمة، وحقق ذلك كله بعزيمة لا تعرف التردد ولا التراجع، بل طمح ببصره العالي إلى منافسة الدول الكبرى في تحقيق المؤشرات العالمية في مسار التنمية، فكان له ما أراد، وحققت دولة الإمارات المركز الأول في مؤشرات يعتبر التقدم فيها من باب الأحلام، لكن الإرادة القوية تصنع المستحيل حتى جعل من دبي دانة للدنيا، وهو مما لا يتسع المقام لذكره فضلاً عن استيعابه على جهة التمام.

ولكن القيادة والرئاسة بكل أعبائها لم تسحب من قلب صاحب السمو ذلك الحس الإنساني المرهف بأوجاع الناس، سواء في أرض الوطن أو في أصقاع الدنيا المتباعدة، فهو من أقرب الناس قلباً لمواطنيه، يرعاهم ويحدب عليهم ويدنو منهم، ويفترش الأرض مع فقيرهم ومسكينهم، ويجلس على الأرض يتناول الطعام مع أبنائه كواحدٍ منهم، لا يدفعه لذلك إلا المشاعر الصادقة التي غرسها في قلبه أبوان كبيران:

راشد بن سعيد ولطيفة بنت حمدان، رحمهما الله، فكان خير وارث لتلك المناقب التي هي في الحقيقة جوهر الإنسان الصافي، وهو، حفظه الله، ذلك الإنسان القائد الذي يطلق في كل شهر من شهور الخير والبركة «رمضان» حملة لإغاثة الجياع وإطعامهم حتى وصل العدد إلى مليار وجبة، وهو جهد تعجز عنه الدول الكبرى، لكن النفوس الكبيرة أكبر من مساحات الأرض، فسن هذه السنة الحميدة التي نسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

في حضرة صاحب السمو تعجز الكلمات عن الوفاء بالمعنى الذي تريد الإفصاح عنه، وحسبها أن تكون صادرة من مشكاة الحب والولاء لهذا القائد الكبير الذي غدا رمزاً تسير بذكره الأشعار، ويبلغ ذكره الطيب ما بلغ الليل والنهار، والسلام على وجهك الطيب يا فارس الوطن وضميره الحي الجميل.

Email