أصالة الرأي وحلية الفضل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قَسَّمتْ العربُ النَّاسَ من ناحية الرأي إلى ثَلَاثَة أقسام؛ رجل، وَنصف رجل، وَلَا شَيْء؛ فالرجل عندهم: من اجْتمع لَهُ ‌أصالة ‌الرَّأْي والشجاعة؛ فَهَذَا الرجل الْكَامِل.

قَالَ المتنبي: (الرَّأْي قبل شجاعة الشجعان... هُوَ أول وَهِي الْمحل الثَّانِي). وقال الطغرائي: (‌أَصَالَةُ ‌الرَّأْيِ صَانَتْنِي عَنِ الْخَطَلِ... وَحِلْيَةُ الْفَضْلِ زَانَتْنِي لَدَى الْعَطَلِ)

فأصالة رأيه، وسداد فكره؛ جنّباه اضطراب القول والعمل، وحلية عمله تزينه عند التعري عن أعراض الدنيا وزخرفها.

قالت العرب: ‌المرء ‌بأصغريه؛ قلبه ولسانه، إِذَا نَطَقَ نَطَقَ بِبَيَانٍ، وَإِذَا قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِ.

وفضل الرجل على غيره ببيانه بلسانه، وعلمه الذي في قلبه، وكلما كان أعلم وأبين لساناً فله الفضل على غيره.

(لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده... فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم)

وهذا قول حق، فكمال المرء بلسانه وفؤاده وإن صَغُرا، لا برُوائِه ومنظره.

(فَإِنْ طُرَّةً رَاقَتْكَ فَاخْبِرْ فَرُبَّمَا... أَمَرَّ مَذَاقُ الْعُودِ وَالْعُودُ أَخْضَرُ/ وَمَا الزَّيْنُ فِي بَادٍ تَرَاهُ وَإِنَّمَا... يَزِينُ الْفَتَى مَخْبُوءُهُ حِينَ يُخْبِرُ)

لذلك؛ كانت الشعراء والخطباء عدةً للقبائل؛ كالرجال والأموال، بل كان الانتفاع بمكانهم، والدفاع بألسنتهم أتم وأكمل.

وقال الجاحظ: «اللسان أداة يظهر به البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ ينهي عن القبيح، ومبشر ترد به الأحزان، ومعتذر تذهب به الأضغان، ومله يونق الأسماع، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومؤنس يسلي الوحشة.

ويقال: المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه». قال أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ: (لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ... فَلَمْ يَبْقَ إِلا صُورَةَ اللَّحْمِ وَالدَّمِ/ وَكَائِنٌ تَرَى مِنْ سَاكِتٍ لَكَ مُعْجَبٍ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ).

ذكروا أنه لما استخلف عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، قدمت عليه الوفود للتهنئة؛ فتقدم إليه وفد الحجاز، فاشرأبّ منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام؛ ليتكلّم من هو أسنّ منك! فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! إنما ‌المرء ‌بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد أجاد له الاختيار؛ ولو أن الأمور بالسنّ لكان ها هنا من هو أحقّ بمجلسك منك، فقال عمر: صدقت، تكلم؛ فهذا السحر الحلال..!

وقد اشتهر بأصالة الرأي من العرب خمسة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد بن عُبادة، وعبدالله بن يزيد الخزاعي. ولذلك؛ كانت العرب تقتدي برأي كبار السن، وتعتمد على مشورة الكهول، لما يوجد فيهم من ‌أصالة ‌الرأي، وإصابة الحدس، وصحة النظر، مع ما منحوا من حسن الاختبار، وسمت الوقار.

Email