فلسفة الاستدراج عند المتنبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاستدراج فن من فنون البلاغة، وهو «مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال».

وزعم ابن الأثير (ت 684 هــ) أنه ابنُ ‌بَجْدَتِها، وقال: «إن مدار البلاغة كلها عليه؛ لأنه انتفاع بالألفاظ المليحة الرائقة، والمعاني اللطيفة الدقيقة،...». ثم قال: «ولتحقيق ذلك ينبغي أن يكون قصيراً في خلابه، ولا قصيراً في خطابه».

وزعمه هذا حق، فلم أر أحداً من أهل البلاغة والأدب ذكره قبل ابن الأثير.

ومن الذين جاءوا بعده حازم القرطاجني (ت 684 هـ) ذكره في كتابه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء»، ولم يعز سبق ابن الأثير إليه! أما المتنبي فقد ضرب في هذا الفن كل مضرب..

ومن لطيف شعره: أن سيف الدولة كان مخيماً بأرض في الديار البكرية على مدينة ميّا فارقين، ليأخذها فعصفت الريح خيمته، فتطير الناس لذلك، وقالوا: لا يأخذها. فامتدحه المتنبي بقصيدة يعتذر فيها عن ذلك، ويستدرج ما أثر ذلك في صدره بالإزالة والمحو، تقريباً لخاطره، وتطييباً لنفسه، فأجاد أيما إجادة، وأفاد أيّما إفادة، ‌فلله ‌دره! ما أعذب كلامه، وأحسن نظامه! قال:

‌تَضِيقُ ‌بِشَخْصِكَ ‌أَرْجَاؤها... ‌وَيَرْكُضُ ‌في ‌الوَاحِدِ ‌الجَحْفَلُ

وَتَقْصُرُ مَا كُنْتَ في جَوْفِها... وَيُرْكَزُ فِيها القَنَا الذُّبَّلُ

‌وَأنَّ ‌لها ‌شَرَفاً ‌بَاذِخَاً... وَأنَّ الخِيَامَ بها تَخْجَلُ

فلا تُنْكِرَنَّ لها صَرْعَةً... فَمِنْ فَرِحَ النَّفْسِ ما يقْتُلُ

وَلَما أمرتَ بِتَطْنِيْبِها... أشيْعَ بأنَّكَ لا تَرْحَلُ

فما اعْتَمَدَ اللهُ تَقْويضَها... وَلَكِنْ أشارَ بما تَفْعَلُ

وَعَرَّفَ أنَّكَ مِنْ هَمِّه... وأنَّكَ في نَصْرِهِ تَرْفُلُ

فما العَانِدُون وما أثَّلُوا؟... وَمَا الحاسِدونَ وما قَوَّلُوا؟

هُمُ يَطْلُبونَ فَمَنْ أدَرَكوا؟... وَهُمُ يَكْذبونَ فمن يَقْبَلُ؟

وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ ما يَشْتَهُونَ... وَمِنْ دُونِهِ جَدُّكَ المُقْبِلُ

فهذه اللامية تظهر فلسفة المتنبي في الاستدراج، وإزالته ما في نفس الأمير من الإحراج!

قال صاحب الطراز؛ المؤيد بالله: «ولو لم يكن في شعره إلا هذه القصيدة، لكانت كافية في معرفة فضله، وكونه فائقاً فيه». أي: الاستدراج.

Email