سخرية أبي العلاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

سخرية أبي العلاء فن أدبي مستقل بذاته، يدرس بعيداً عن مواطن عبقرياته، ومكامن إبداعاته.

والكلام عن سخريته وفلسفته يستدعي منا الحديث عن مفهومها، وتاريخها، وبواعثها، وغاياتها، وهذا حق، غير أن مَقام المقالات في صحيفة سيارة لا يتسع لذلك؛ فأدب السخرية عند الشاعر والفيلسوف «المعري» يتميز بأنه نشاط عقلي، واستجمام قلبي، واسترواح نفسي، يقوم على الفكر والفلسفة جميعاً؛ ذلك أن فلسفته في السخرية فن رفيع، وأدب بديع، وسيعَة البقاع، ‌رفيعة اليَفاع، وليس كما هو موجود عند بعض الأدباء والشعراء؛ هجاءً يقوم على الطعن والشتم والتجريح.

ولكن، كيف لرجل مثل المعري ولد وترعرع إبان حقب زمانية قلقة، وعاش ظروفاً اجتماعية مرهقة، أن تتهيأ له مثل هذه الفلسفة المتألقة؟!

يرى علماء النفس أن بواعث السخرية وغاياتها تختلف باختلاف الشخص والبيئة، فحين تنتشر الانحرافات، وتتدهور الأخلاقيات، تنبعث طائفة من الأدباء والشعراء والمفكرين، تتخذ هذا اللون الأدبي -السخرية- وسيلة للإصلاح.

وعلى هذا فأكثر الناس تعاسة وشقاءً وجراحاً أكثرهم بشاشة وضحكاً وانشراحاً، كما يقول نيتشة. أما بيرون فيقول: «ما ضحكت لمشهد بشري إلا وكان ضحكي بديلاً أستعين به على اجتناب البكاء». وهذا الأمر من الوضوح حتى إنك لتجده في نفسك، وتراه وتحسه في غيرك، ورحم الله أبا الطيب حينما عبّر عن هذا كله ببيت واحد:

وكم ذا بمصر من المضحكات... ‌ولكنّه ‌ضحكٌ ‌كالبكا

لذلك تنوعت سخرية المعري؛ فشملت أصنافاً من الناس، وشرائح من المجتمع. وأول ضحية لسخريته هي اسمه، قال:

‌دُعيت ‌أبا ‌العلاء وذاك مَينٌ ... ولكن الصحيح أبو النزول

ثم سخر من الجهل وتفشيه بين الناس، حتى صاروا يقبلون ما ترفضه العقول:

قد صدَّق الناس ما الألباب تبطله ...

حتى لظنّوا عجوزاً تحلب القمرا

ثم سخر من الشعراء المتملقين، طمعاً بالدراهم:

تكسّب الناس بالأجساد فامتهنوا ...

أرواحهم بالرزايا في الصناعات

وحاولوا الرزق بالأفواه فاجتهدوا ...

في جذب نفع بنظم أو سجاعات

وقالوا في ذم الناس:

عوى الذّئبُ فاستأنستُ بالذّئب إذ عوى ...

وصَوَّتَ إنسانٌ فكِدْتُ أطيرُ

Email