فَنُّ المقامات

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتنازع هذا الفنُّ أديبان كبيران؛ أما أحدهما: فبديع الزمان الهمذاني (398 هـ) مبتكرُ هذا الفن والسابق إليه، والثاني: الأستاذ الرئيس أبو محمد القاسم بن علي الحريري (516هـ) الملك المتوج على رأس كتاب المقامات، فهو أغزر مادة، وأصوب جادة، وأشد تعمقاً في اللغة، ما جعل لمقاماته منزلة علية.

وقد قال ياقوت: «إن الحريري أبر بِكُتّاب المقامات على الأوائل، وأعجز الأواخر». وقال شوقي ضيف: «وكان الحريري لا يبارى في الأدب والبلاغة والفصاحة، وتعدّ مقاماته آية براعته التي ليس لها لاحقة مماثلة وكأنما أغلق الأبواب بكلتا يديه بعده، فلم يستطع أحد أن يجاريه أو يبلغ مبلغه». ويشهد بذلك الزمخشري، قال:

أقسم بِاللَّه وآياته

ومشعر الْحَج وميقاته

أَن الحريري حريٌّ بِأَن

نكتب ‌بالتبر ‌مقاماته

قالها بعد مئة مقامة وعظية حاكى فيها الحريري، دون أن يبلغ مداه، ويحلق إلى سماه! والمقامة حكاية تعليمية، لحمتها درر لغوية، وفرائد أدبية، وسداها حِكم وأمثال، وأشعار ووصف أحوال، تدل في مجملها على سعة اطلاع، وطول باع، وغزارة مادة، وعقلية حادة، وعلو مقام، ومنزلة في اللغة والأدب لا ترام.

فلا جرم أن بلغت السِّماكَ منزلةً، والثريا مقاماً. فما أن فرغ منها وأتمها –الحريري- حتى أقبل العلماء والأدباء من كل فج عميق؛ على دراستها وحفظها وشرحها ومعارضتها. وقد امتدت شهرتها إلى الأندلس.

ومع كل هذه الشهرة، وتلك البُهْرَةَ لم يفتْ الحريري أن يقرَّ بأنه مسبوق، ولاحق غير ملحوق قال: «هذا معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ رحِمَهُ اللهُ ‌سَبّاقُ ‌غاياتٍ.. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ.

Email