مآثر الشعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثِرَ عن شعراء العربية وكُتابها وخطبائها من بدائع القول وزخرف الكلام صور حالمة، وأخيلة مجنحة، ومعان دقيقة رقيقة أحلى وأجمل من العروس يوم جلوتها!

فتمثل من أدبهم تثقيف للعقل، وتهذيب للنفس، وترقيق للحس والشعور، وفتق للسان، وجري للجنان! ولا غرو أن الآداب العربية كانت أصل الآداب العالمية جميعاً، ولم لا وهي آداب الإسلام، والإسلام جمع في كنانته جميع الشعوب والقبائل، فاستظل في مظلته الأواخر والأوائل، فنبغ فيهم البلغاء المصادع، والخطباء المصاقع، والشعراء الفحول، فنقلوا ما في جعابهم من معان وصور إلى اللغة العربية، كل حسب اختصاصه.

وقد عمل في تشكل الشعر والشعراء عوامل كثيرة، غير أن مباهج الحضارة ومفاتنها كانت أكثر سخاء مع الشعر والشعراء، كذلك ما وجدوه من مؤازرة الخلفاء ومناصرة الطبيعة الغناء، وما يؤيدهم في طبعهم وسليقتهم من المدح والثناء، فإن تمام العربية سليقة لا تكتسب، ووكد لا ينتهب، فتلقفها بُناةُ المجْدِ، وأرْبابُ ‌الجدّ.

الجدّ أنهض بالفتى من عقله … فانهض بجدّ في الحوادث أو ذر

ما أقرب الأشياء حين يسوقها … قدر وأبعدها إذا لم تقدر

فقام الشعرُ للعرب ‌مقام ‌الكتب ‌لغيرها من الأمم، فهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها يوم النفار، وديوان حجاجها عند الخصام.

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:«كان الشعر علم قوم لم يكن لَهُم علم أصح مِنْهُ»

وقال ابن سلام: «فجاء الْإِسْلَام فتشاغلت عَنهُ الْعَرَب وتشاغلوا،... ولهت عَن الشّعْر وَرِوَايَته، فَلَمَّا كثر الْإِسْلَام وَجَاءَت الْفتُوح واطمأنت الْعَرَب بالأمصار راجعوا رِوَايَة الشّعْر فَلم يؤولوا إِلَى ديوَان مدون، وَلَا كتاب مَكْتُوب، وألفوا ذَلِك وَقد هلك من الْعَرَب من هلك بِالْمَوْتِ وَالْقَتْل، فحفظوا أقل ذَلِك وَذهب عَلَيْهِم مِنْهُ كثير، وَقد كَانَ عِنْد النُّعْمَان بن الْمُنْذر مِنْهُ ديوَان فِيهِ أشعار الفحول وَمَا مدح هُوَ وَأهل بَيته بِهِ صَار ذَلِك إِلَى بني مَرْوَان أَو صَار مِنْهُ»، وقال: وَكَانَ الشّعْر في الْجَاهِلِيَّة عِنْد الْعَرَب ديوَان علمهمْ ومنتهى حكمهم بِهِ يَأْخُذُونَ وَإِلَيْهِ يصيرون.

Email