اشتُهر الخليفة عبد الملك بن مروان بحزمه وعزمه، وعدله، وحسن رعايته، فقد قضى شطراً من خلافته في رتق الفتوق، وسد الشقوق، وسدِّ الثُّلم، ومحو الظلم، وإسعاد الأمم، ونجح في القضاء على منافسيه والخارجين على حكمه ومناوئيه.

فبلغ من ذلك مراده، بعد أن بذل جهده وجهاده، فخاض أهوالاً تشيب لها الأطفال، وعالج أعباءً تنوء بها الجبال، فعُدَّ بحقٍّ رجل الأمويين، ورافع رايتهم في الخافقين، فأربى على السابقين، وأعيى اللاحقين، ولم يَعْدُ الحقَّ من قال:

«معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم». ولم يَغْل عبد الملك في وصف نفسه حينما قال: أيها الناس، والله ما أنا بالخليفة المستضعف «عثمان»، ولا بالخليفة المداهن «معاوية»، ولا بالخليفة المأفون «يزيد»؛ فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا! واشتهر أيضاً بنقده الأدبي، فهو الذي جمع القصائد السبع، وهي:

«قصيدة عمرو بن كلثوم»، «والحارث بن حلزة»، «وسويد بن أبي كاهل»، «وبسطت رابعة الحبل لنا»، وأبي ذؤيب «أمن المنون وريبها تتوجع» وعبيد بن الأبرص «أن تبدلت من أهلها وحوشا» وعنترة، «يا دار عبلة بالجواء تكلمي..» ثم ارتج عليه وهو يختارها، فدخل عليه ابنه سليمان وهو يومئذ غلام فأنشده قصيدة أوس بن مغراء (محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من يمشي على قدم)، فقال عبد الملك وتعصب لها: «مغروها» أي أدخلوا قصيدة ابن مغراء فيها. وهو نفسه الذي قال لمؤدب ولده: إذا روَّيتهم شعراً، فلا تروِّهم إلا مثلَ قول العجير السّلولي:

يبين الجار حين يبين عني

ولم تأنس إلي كلاب جاري

وتظعن جارتي من جنب بيتي

ولم تستر بستر من جدار

وتأمن أن أطالع حين آتي

عليها وهي واضعة الخمار

كذلك هدي آبائي قديماً

توارثه النِّجار عن النِّجار