الروايات أمهات المدن

ت + ت - الحجم الطبيعي

مقال جميل في إحدى الصحف يتساءل كاتبه عما إذا كانت المدينة تموت!

ما الذي يقتل المدينة، ونحن نعرف أنها في حياتنا كائن حي يعيش فينا ونرتبط به حتى في ملامحنا؟ لكن بعد الفراغ من قراءة المقال تجد أن أفضل إجابة ليست لديك، بل في مكان آخر، على سبيل المثال.. لماذا لا يسأل عنها الرواية؟

في الأدب يقال إن الرواية ابنة المدينة، وربما كان هناك من هو مثلك من يتصور أن المدينة يجوز لها أن تكون ابنة الرواية، وأنه لو اختفت الرواية ستختفي المدينة من حياتنا.

تمر بهذه الروايات أمهات المدن من «قاهرة» نجيب محفوظ، ابنة رواياته كلها، حتى رواياته وقصصه الأخيرة وأنتم تعرفونها، و«بصرة» محمد خضير، ابنة رواياته وقصصه، و«لندن» تشارلز ديكنز ابنة أعماله الروائية، و«سان بطرسبيرغ» ابنة أعمال فيودور دوستويفسكي الروائية، و«دبلن»، ابنة روايات جيمس جويس وأعماله الأخرى في معظمها.

«لندن» اليوم ابنة أعمال كُتّاب جدد، منهم الروائية البريطانية زادي سميث، وغيرها كثيرون، هنا ربما تشعر بأن الرواية صنعت الذي صنعها (المدينة)، لحماً ودماً.

روايات وقصص هي المدن، ومتى انتهت روايتها لسبب أو لآخر تتغير ونكون نحن القراء على موعد مع رواية مدينة مختلفة الملامح ـ كمدن المستقبل التي لا ندري إن كانت على سطح الأرض أم في أي الكواكب. تولد من لدن رواية، هكذا كل مدينة رواية لها فكرة وموضوع، وأسلوب وفنيات وجماليات مرحلتها.

كاتب مقال المدينة التي تموت كان يرى مدينته وقد تغولت مادياً فلم يعد قادراً على العيش فيها إنساناً عادياً، وبينما تتحول مدينته الغربية إلى متاحف، لا تصبح صديقاً لكائن حي، فتتقهقر روايتها الأم المبنية على الجماليات والإنسانيات، وتتضخم الآلة التي بها صنعت لتخنقها.

نذكر أن روايات محفوظ أعادت تشكيل ملامح ابنتها المدينة في زمانها بقوة قلمه، رسمتها بوضوح، وكذا فعلت روايات ديكنز وجويس وتفعل رواية سميث، وأياً كانت نسبة الوضوح، إلا أن المدن تتشوه أحياناً وتصعب رؤية ملامحها وعلينا أن نقبل بذلك، فبعض المدن تشوّهها الحروب، تهدم أبنيتها ومتاحفها ويمسح تاريخها وحضارتها، ومدن أخرى تخربها المادة والآلة، والتطور التكنولوجي وما بعده، وثمة مدن تتردى قيمها وأخلاقياتها، ليس خراباً واحداً، وعلى الرغم من ذلك نقول كيف تموت المدينة وأمها الرواية «رأسها يشم الهواء» وقادرة على أن تبعثها للحياة؟

Email