جنون المطر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتوالى فصول السنة، وأرى في فصل الشتاء ما يجعلني أعشقه عن ما سواه، ففيه خرجت للحياة لأصبح هاوية لطقوسه، أنتظر نسيم هوائه ليداعب خصلات شعري وأمطاره التي ارتبطت بها طفولتي، وكم من قلوب تنتظره بلهفة وحنين لاستذكار لحظات قد لا يعزز حضورها إلا أصوات الرعد وحبات المطر المتساقطة على الألواح، وضوء البرق يضيء من خلف ستائر غرفتنا المظلمة الباردة.

أجمل ما في الشتاء أمطاره التي أرى فيها تلك الطفولة، ببراءتها وعفويتها، وذكريات منزلنا آنذاك بفنائه الشرِح وتجمع الصغار فيه وضجيج أصوات حناجرنا الصغيرة فرحاً بسقوطه وصرخات تلك الجدة «لا تناقزون لجل ما تزلقون» أتذكر تفاصيل تلك اللحظات حين أسدل شعري على كتفي ليبتل بالأمطار تيمماً بما قيل بأن المطر بركة للشعر..

ونتراقص فرحاً، ونجمع حباته في الإناء النحاسي بعد أن يئسنا من محاولة الإمساك بحباته واحتضان زخاته الغزيرة، وعلو قفزاتنا متناسين برد أجسادنا الغضة.

حين تهطل الأمطار كنا نجمع كل أمنياتنا التي كانت أسماها أن لا نفقد ألعابنا، وأن يزداد المطر وتمتلئ الشوارع بالمياه لنُمنع من الذهاب للمدرسة، كنا ننشد وننادي الخالق «يا رب زيده نحن عبيدك».

رائعة أنفسنا حين نتركها تعبث بجنون المطر وببساطة الحياة، وتشعر بأنها تملك العالم بأسره، هي تلك الحياة بعيدة البعد عن البغضاء ومنغصات الحياة. كم نحتاج إلى أن نعود أطفالاً لنلهو بالأمطار وتغسل أجسادنا بمياهه وتتطهر قلوبنا من شوائب الحياة، ونشعر بلذة أن نعيشها بعفوية الأطفال وسعادتهم بصبيب الأمطار.

كبرت ولم أكبر عن جنون المطر، مازلت أنتظره وأتحين سماع دقاته على النافذة، لأعود طفلة أشتم رائحته وأقفز على أنغام زخاته وأشرب مياهه، وأتجرد من دبلوماسية الحياة، وأعيش لحظات التناغم بين المطر والطفولة.

Email