من يطفئ النار؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاد الرجل من سفرة قصيرة خارج البلاد ليُفاجأ بخبر وقع على مسامعه وقع الصاعقة. قيل له بعد مقدّمات تمهيدية إن أكثر من مئة شجرة من زيتونه تعرّضت للتكسير على أيدي «مجهولين».

وقبل أن يغيّر ملابسه ويستريح من عناء السفر البري، ذهب لتفقّد أشجار زرعها بيديه وواكب نموها يوماً إثر يوم، تماماً مثلما واكب ترعرع أبنائه. شعر أن ساقيه لا تقويان على حمله من هول ما رأى. الأغصان تتدلى منكسرة وحزينة، نالت من براءتها أياد همجيّة لا تعرف الرحمة ولا تتقن حتى الانتقام إن كان له ما يبرره.

من ارتكب هذا الجرم الشنيع بحق شجرة «تسبّح لربّها»؟، تساءل العجوز. هل يتّهم من اتّهموا شقيقه قبل شهر بتكسير أكثر من مئتي شجرة؟ كاد أن يصدر اتهامات كهذه من دون دليل أو بيّنة أو تحقيق، لولا أن أولاده «أيقظوه» من غفلة الفتنة، وأنقذوا من فقدان الحكمة رجلاً عاصر سياسات «فرّق تسد» الاستعمارية بكل تجلّياتها، وذكّروه بأن سياسة الدول هي امتداد لفكر فردي وطبقي. الدول تقودها الناس وليست المباني والمقرّات وأجهزة الحاسوب.

كانت القرية حينها تموج بارتكابات «مجهولة الفاعل» في الظلام، فلم يمر أسبوع من دون اعتداء على حقل زيتون أو إحراق حقل قمح أو حتى إلقاء حجارة على منزل أسرة نائمة. لم تكن الاستهدافات عشوائية، إنما كانت على قدر كبير من اللؤم والخباثة بحيث تنتقي أشخاصاً لديهم خلافات أو حسابات مع آخرين، والأخطر أنها كانت محصورة في واحدة من عائلتين تتكون منهما القرية.

حكمة الكبار ضرورية في كل مكان وزمان، ولولاها لتحولت حقول الزيتون الخضراء بأحمر الدماء. الدم يجر الدم. هكذا قال الأجداد الذين خانهم الأحفاد إذ دخلوا في لعبة دم لا أفق لها ولا نهاية. الجلادون كانوا أشد ولاء لأجدادهم المستعمرين في إتقان فن السيطرة على الشعوب المستعمرة، بالتجهيل والإفقار والتضليل وفتنة «فرّق تسد».

كم نحن بحاجة اليوم إلى حكماء قبل أن يكونوا زعماء. كم نحن بحاجة إلى إعلام وإعلاميين تلقوا دورات في إطفاء الحرائق قبل تعلّم صياغة الخبر وتحريره. كم نحتاج إلى ثقافة تجرّم تحويل الإنسان إلى حطب يتدفأ عليه أصحاب المصالح. سنبقى نأمل أن ينتصر الإطفاء على الإشعال، لأن النار حين تنتقل لا تنتقي.

 

Email