ثقافة العجز

ت + ت - الحجم الطبيعي

العجز لا يولّد إلا مزيداً منه، وبين خطابي لعبة الأمم، وطغيان العصبية الطائفية والإرهاب السائدين في هذه الآونة، ثمة خيط واصل، يلغي ما بينهما من حراك اجتماعي، مختزلاً العقل بثقافة التسطيح السائدة في البنى الفوقية لأشباه الدول، مقتلعاً إمكانية الفعل الإنساني من جذورها، برد كل شيء إلى عامل خارجي يتحكم دائماً في وضع داخلي تحمل رايته ذهنية تتناقض أولاً مع نفسها، عندما ترفع شعار لا للتدخل الخارجي، وتلغي في الوقت نفسه الآليات الذاتية للفعل، مفسحة المجال لظهور مقولات غريبة من نوع «المآل العفوي»، و«ميثولوجيا الغيب»، من شأنها تكريس ثقافة العجز، وعجز الثقافة عن تقديم قراءات موضوعية لا غنى عنها، لتفعيل العامل الذاتي، الذي يراد له البقاء في خلفية المشهد.

ذهنية لا يكتفي روادها بالركون إلى الخلاص الفردي، والانكفاء على الذات والتقوقع في دائرتها الضيقة، بل يبذلون جهوداً مضنية لتعميمها على الجميع، لتبرير حالة من العجز يشكلون هم عمودها الفقري، فارضين بذلك ثقافة الهزيمة، وجرجرة الذيول، وانتظار الفرج القادم من السماء تارة، ومن ما وراء البحار تارة، في مشهد انتحاري يلغي سمات الإنسان حتى في طوره البدائي، وينزع عنه الخواص الغريزية في الدفاع عن نفسه، عندما يتعرض لهجوم.

ذهنية تهبط بثقافة التضحية والبذل إلى الدرك الأسفل، وتعلي شأن ثقافة التخاذل والاستسلام للواقع، وإحالة العقل على التقاعد، وإبقاء صاحبه رهينة رغبة سيد ما، ربما يكون وهماً سرعان ما يتحول إلى حالة مرضية مزمنة، لا سبيل للخروج منها إلا بعملية جراحية، تستأصل ما علق به من شوائب على مر المحن.

طوبى لذلك العبد المحرر الذي أطلق، عندما التقى شقيقيه المحررين للتو من قيد العبودية أيضاً، دعوة عفوية لكنها مدوية، عانقت السماء وجهات الأرض الأربع لشدة وطأتها: «ربي متى تخرج سيدي من رأسي!»، فقد أدرك بالفطرة أن قضية العبودية جوهرها الذات أولاً وأخيراً، وأنهم لن يحصلوا على التحرر الناجز إلا بعد تحرير ذواتهم من سطوة سيدهم السابق، الذي بقي ظله الأسود مسيطراً رغم خروجهم من الأسر.

الفرق بين العبد المحرر وصاحب عقلية اختزال العقل، يكمن في شجاعة الأول في طرح الحقيقة كما هي، بينما يغوص الثاني في مستنقع الوهم والرياء على الذات وعلى الآخر.

Email