قرطاج الحكاية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتذكر قرطاج في القرن الواحد والعشرين أن لديها أمانة لابد وأن تعاد أو تعود إلى صور، لا يحتمل مطارها استضافة حفنة من اللاجئين الفلسطينيين السوريين الهاربين من ويلات الحرب في بلد لجوئهم الأول سوريا لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، السقف الزمني للمكوث في منطقة العبور (الترانزيت)، أو لأكثر من 30 يوماً من الإقامة العابرة إثر قرار وزارة السياحة التونسية وليس للسفارة الفلسطينية استضافتهم، وبعدها الترحيل القسري وردهم إلى مشارف اللهيب المستعر.

نسيت قرطاج هذه المرة أميرتها الفينيقية المؤسسة أليسا التي جاءت هاربة مع صحبها في مدينة صور بلبنان، وشيدت أسطورة وإمبراطورية أعطت المدينة اسمها وهويتها وحفظها الناس في قلوبهم على مر العصور، كما تنكرت لعراقة تقاليد الضيافة التونسية التي تجلت عام 1982 في استقبال آلاف المناضلين الفلسطينيين المرحلين من بيروت وعلى رأسهم الراحل ياسر عرفات الذين صمدوا في الشقيقة الكبرى لمدينة أميرتها المؤسسة اثنين وثمانين يوماً في وجه آلة الحرب الصهيونية.

ثلاثون لاجئاً جلهم من الأطفال والنساء يرحلون قسرياً من قرطاج إلى بيروت لا يشكلون، من الناحية العددية، سوى نقطة في بحر كتلة بشرية تتقاذفها الأقدار منذ ستة وستين عاماً اختبروا خلالها ويلات الترحال والترحيل في مختلف الحدود بين بلدان العالم ومطاراتها وموانئها التي راحت تلفظهم تباعاً في رحلة ممتدة في الزمان والمكان لم يقرروا القيام بإرادتهم أصلاً بل فرضتها مصالح الأمم الكبرى ولعبتها وتوجهاتها الاستعمارية التي لا تعير وزناً لتفاصيل تبدو في عيونها صغيرة بينما تشكل، في المقلب الآخر من الصورة، مصير وأحلام وآلام أشخاص وعائلات بأكملها.

أي يد امتدت إليك يا قرطاج الحكاية وعبثت بعهودك القديمة بعد أن كللك الربيع وأزهر الياسمين فيك وكيف نسميك بعد اليوم وكيف لنا أن ننسى ما يجمع بيننا من تقاطعات على درب الرحيل واختبارات المنافي البعيدة وأنت لك فيها ما لك من الحكايات الناعسة بين رمال شاطئك وحجارة بيوتك وفي أزقة حواريك.. لا.. لا أيتها الجليلة لن نسميك بغير اسمك، ثمة استحالة في شطب قرابة تجمعنا منذ زمن بعيد وتحيلنا إلى التشابه، لكنك تذكرينا بالفرق بين رحيل وترحيل يبقي اللاجئ الفلسطيني مستيقظاً وعندما يأخذه النعاس ينام واقفاً على وقع لفظ الأشقاء له في محيط عربي أغلق عليه كل الأبواب وترك له باباً واحداً موارباً نحو الشمال والشمال فقط.

Email