خيط الشتات الفلسطيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

واقعتان فلسطينيتان مشدودتان بخيط اقتلاع الكتلة السكانية الفلسطينية من بيئتها الطبيعية بطريقة الدفع الذاتي الظاهري، ولا يفصل بينهما زمنيا سوى ستة وستين عاماً فقط.

الأولى شهدت تفاصيلها المأساوية قرية فلسطينية جمع أحد سكانها المتعلمين أهلها وطالبهم بالبقاء وعدم الانصياع لنداءات الجيوش العربية التي كانت متمركزة في بعض مناطق فلسطين بمغادرة بيوتهم وأراضيهم لمدة لا تتجاوز أسبوعا أو أسبوعين على أكثر تقدير، حتى يتسنى لتلك الجيوش تحرير أراضيهم من العصابات الصهيونية عشية إعلان قيام الدولة العبرية.

لكن دعوة ذلك المحامي لم تلق آذاناً صاغية لدى وجهاء وشباب البلدة، الذين اعتبروا دعوته ضربا من الخيانة الوطنية. وبقي هو وذريته حتى اليوم، بينما خرجوا هم هائمين على وجوههم في رحلة شتات لم تنته فصولها بعد.

الواقعة الثانية تشهد تفاصيلها هذه الأيام إحدى ضواحي العاصمة البلغارية صوفيا، حيث سيدة فلسطينية لاجئة للمرة الثالثة أو الرابعة قبل أن تحط رحالها مجبرة في أرض جديدة لا تعرفها.

تصل في حديث مع جاراتها في الغربة إلى نتيجة مفادها أننا نطرد أنفسنا بأنفسنا ونقتلع أنفسنا من جذورنا عندما نعبر حدود غيرنا ونستجدي أوراق إقامات وجنسيات غريبة، مفسحين المجال لغيرنا ليزرعوا أنفسهم في مكاننا وعلى أرضنا.

استنتاج السيدة الفلسطينية وربما اسلافها أيضا، يبقى نظرياً ويرقى إلى مصاف الترف الفكري في هذه الحالة، ولا يمكن الوصول إليه إلا بعد تجريده من حزمة لا متناهية من الظروف والأحداث والسياسات المبرمجة التي دفعتهم إلى خوض غمار تجربة الرحيل والشتات المريرين، على وقع ضربات المدافع وأزيز الرصاص وصوت الجوع المدوي وخسارة الأقرباء، لكنه في المحصلة النهائية يبقى استنتاجاً صحيحاً وحقيقة موغلة في الحاضر لتصفع التاريخ مثابرة على تغيير معطياته.

 لكن سرعان ما يتحول الاستنتاج الفطري إلى سؤال كبير لا يرحم، عندما يجد اللاجئ الفلسطيني نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما البقاء ومواجهة آلة الحرب والتجويع والإذلال في الشتات القريب نسبياً، وإما مواصلة الرحيل من شتات إلى آخر بعد أن ترك لمصيره بمفرده، في مشهد لم توضع نقطة النهاية فيه بعد.

Email