عقوبات أميركا والفردوس المفقود

ت + ت - الحجم الطبيعي

«تمخض الجبل فولد فأراً»، هذا المثل ينطبق تماماً على حزمة العقوبات التي فرضتها واشنطن الاثنين الماضي ضد روسيا، وهي الحزمة الثانية التي جاءت بعد صيحات تهديد ووعيد، تصور البعض أنها ستجعل الرئيس الروسي بوتين يتراجع عن سياساته في أوكرانيا، وذلك بعد الحزمة الأولى من العقوبات التي جاءت بعد إعلان عودة «القرم» للوطن الأم روسيا..

والتي قال بعدها الرئيس الأميركي أوباما للصحفيين «لقد ذهب القرم بلا رجعة والعقوبات لن تغير شيئاً»، وجاءت الحزمة الثانية من العقوبات مثل سابقتها، مثيرة للسخرية والاستهزاء بالعملاق الأميركي، الذي كشفت الأزمة الأوكرانية مدى ضعفه وتراجعه.

لم تجرؤ واشنطن على توجيه عقوباتها لأي شخصية محورية مؤثرة في صناعة القرار الروسي، بل وجهتها لنواب في البرلمان ومسؤولين من الصفين الثاني والثالث، ولبعض الشركات الصغيرة التي ليس لها أي نشاط في الولايات المتحدة.

. والذي أثار السخرية أن العقوبات تنص على حرمان هؤلاء الأشخاص من دخول الأراضي الأميركية، وتجميد أرصدتهم في البنوك الأميركية «إن وجدت»، حسب نص العقوبات، وكأن هؤلاء الأشخاص، وعددهم أقل من 15 شخصاً، يبيتون يحلمون بالسفر للولايات المتحدة، ولا يعلم الأميركيون أن هناك قانوناً في روسيا يحظر على أي مسؤول روسي امتلاك حسابات في بنوك أجنبية.

الأوروبيون رفضوا مشاركة واشنطن في حزمة العقوبات الثانية، وفضلوا مصالحهم مع روسيا على السير في ركب الأميركيين، الذين ما زالوا يعيشون في وهم «الفردوس الأميركي» الذي يحلم العالم كله بدخوله، بينما أقرب الحلفاء لواشنطن ينفضون من حولها ويبتعدون عنها بعد أن باتت، ليست قوة ضعيفة على وشك الاندحار والانهيار، بل باتت أيضاً مصدراً للمشاكل بالنسبة للأوروبيين ومصالحهم مع القوى الجديدة الصاعدة في العالم، مثل روسيا والصين وغيرهما.

الأزمة الأوكرانية لم تكشف فقط مدى قوة روسيا، ورئيسها بوتين الذي باتوا يلقبونه في الغرب بـ«أقوى رجل في العالم»، بل كشفت أيضاً مدى ضعف وتراجع مكانة الولايات المتحدة التي بدأت تلملم أوراقها على الساحة الدولية. وليس صحيحاً ما يتصوره البعض، من أن الأمر يرجع لضعف إدارة أوباما وليس ضعف أميركا نفسها، وأن الجمهوريين سيعودون للبيت الأبيض ويعيدون أمجاد الإمبراطورية. هذا وهم كاذب، فالتراجع الأميركي بدأ قبل وصول أوباما للبيت الأبيض عام 2009، وحتى قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008.

لقد بدأ التراجع الأميركي واضحاً للعالم كله في أغسطس 2008 أثناء الهجوم العسكري الروسي على جورجيا، حليفة واشنطن الأولى التي تستضيف على أراضيها قاعدة عسكرية أميركية كبيرة، لم تستطع رد القوات الروسية التي وصلت للعاصمة الجورجية تبليسي في ساعات معدودة، ولم تملك واشنطن آنذاك في عهد صقور اليمين الجمهوري المحافظ، أي شيء تفعله لحماية حليفتها جورجيا.

Email